سِرّ

منار مخّّول
Download PDF

ترجمة: علاء حليحل

ظهر بالأصل في العدد 18 من مجلّة مفتاح

مدخل

ليس سرًّا أنّ لجميعنا أسرارًا.[1] يُمكن للسّرّ أن يُثقل كاهل من يحمله، وللكشف عن سرّ أو مشاركته أن يجلبا معهما شعورًا بالراحة. لكن ثمّة أسرارٌ يكون الكشف عنها مُرهقًا وخطرًا وأحيانًا مخالف للقانون. اُنظروا من حولكم: الأسرار موجودة في كلّ مجالات الحياة، بدءًا بوصفة الجدّة السّريّة، سرّ مهنة الأمّ، السرّ العائليّ، مرورًا بأسرار الطبيعة أو سرّ نجاح شخص ما، وانتهاءً بالجمعيات السريّة وأسرار الدولة. أمّا بخصوص الأسرار الشخصيّة فيمكن أن تكون أمراضًا نفسانيّة، وخيانة في العائلة، أولادًا خارج إطار الزّواج، أو جريمة تتجسّد في جمع الأموال خلافًا للقانون أو القتل. من جهة ثانية، يُمكن للسّرّ أن يكون تطويرًا تكنولوجيًّا أو مُنتَجًا جديدًا يضمن التفوّق التجاريّ أو الأمنيّ. تحوي المعاجم تعريفات قاموسيّة للسرّ بكونه “معلومات خفيّة لا يجدر الكشف عنها لأحد”، في حين أنّ معجم “لسان العرب” يحوي اشتقاقات عديدة للجذر “س.ر.ر” غالبيّتها تحوي مُركّبات من الإخفاء والكشف. لو أخذنا التعريف الأوّل فنرى أنّه يتطرّق إلى المعنى المزدوج-المناقض للتورية والكشف: “أسَرَّ الشّيء: كتمه وأظهره، وهو من الأضداد، سررته، كتمته، سررته: أعلنته”، أي أنّ دلالات الفعل أسَرَّ هي الكتمان، “كَتَم”، والإظهار، “أظهر/ أعلن”.[2]

مع ذلك، من الصّعب تعريف ماهيّة السرّ. يقول كانت (Kant) إنّ لا أحد يعرف ما هو السرّ،[3] وكذا ليونيداس دونسكيس (Leonidas Donskis) الذي يرى في السّر ظاهرة متضاربة عصيّة على التعريف. فهو يرى أنّ “التضارب بما يخصّ الأسرار مَكْمَنُه في أنّها لا تتبع للخاصّ أو للعام قط […] السرّ موجود دائمًا في واجهة أو على حدود الخصوصيّة، لكنّه لن يصبح مشاعًا عامًّا مئة بالمئة”.[4] أمّا ميخائيل سليپيان (Michael Slepian) فيدّعي أنّ الأدبيّات البحثيّة في هذا المجال قليلة، وتفتقر لنموذج تحليليّ كافٍ للنوايا من وراء كتمان الأسرار.[5] تكمن صعوبة تعريف السرّ في حقيقة أنّ كلّ شيءٍ يمكن أن يكون سرًّا، ولذا نرى أنّ الأدبيّات البحثيّة عن الأسرار والسرّيّة تنسحب على حقول بحثيّة كثيرة: أبحاث نفسانيّة وسوسيولوجيّة تتطرّق إلى كيفيّة استخدام بني البشر للأسرار؛ وأبحاث اقتصاديّة تنشغل بديناميكيّة كتمان الأسرار وبمشاركة الأسرار الصّناعيّة والاقتصاديّة وتأثيرها على الاقتصاد والسّوق (بمعنى: كيفيّة استخدام الأسرار لصالح منافع الشركة في السّوق التنافسيّة)؛ وأبحاث أخرى تتركزّ في ديناميكيّة كتمان الأسرار ومشاركتها في العلاقات بين الدّول ضمن منظومة دَوليّة تتّسم بطابع فوضويّ؛ وثمّة أدبيّات وافرة عن الأسرار والترميز في البرمجة وتخزين المعلومات.

تسعى هذه المقالة إلى التفكير بمصطلح “سرّ” وبإسقاطاته السياسيّة عبر مناقشة رواية المتشائل لإميل حبيبي (عنوانها الكامل: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل). وسيتركّز النقاش في هذه المقالة بثلاثة أبعاد مركزيّة: السِّرّ (أي المضمون)، والسِّريّة (أي أداة أو طريقة كتمان السرّ)، وتمثّلات الهويّة المزدوجة. من يقرأ المتشائل يرى فيها أكثر من عشر وقائع أسرار، من الحكايات القصصيّة وحتّى الأسرار التي تشكّل مفاصلَ حبكيّة مركزيّة. السرّ الأساسيّ الذي يظهر في مُفتتح الرّواية يتعلّق بـما “أبلغ عنّي أعجب ما وقع لإنسان” حين يلتقي البطل “مخلوقات هبطت علينا من الفضاء السحيق”، الأمر الذي يمكن أن يرمز أيضًا إلى مشفًى للأمراض النفسانيّة. تظهر مركزانيّة الأسرار والسِّريّة في الرواية في الترجمة الإنجليزيّة التي تتطرّق إلى الأسرار في العنوان (The Secret Life of Sa‘ıd, the Ill-fated Pessoptimist)، رغم أنّها لم تكن جزءًا من العنوان العربيّ الأصليّ. من الممكن إرجاع التطرّق إلى “الحياة السريّة” لسعيد إلى “الوقائع الغريبة” ومضمون الرّواية، رغم أنّ المترجمة سلمى خضراء الجيوسي لم تتطرّق إلى هذه النقطة في تقديمها للطبعة الإنجليزيّة. سيعرض النقاش الذي نحن في صدده هنا ثلاثة مستويات تحليليّة للأسرار والسّريّة عبر سياقات سياسيّة، استنادًا إلى قراءة لمقاطع من الرّواية، والاستعراض الأدبيّاتيّ متعدّد المجالات عن الأسرار والسّريّة. ونضيف هنا أنّ الاستناد إلى مصادر فلسفيّة نظريّة ليست أدبيّة بالضرورة هدفُه اقتراح قراءة مُركّبة لرواية طافحة بالأسرار (وإماطة اللثام عنها) عبر سياقات تتعلق بالمصالح وعلاقات القوى وصراع البقاء. وختامًا، تقترح قراءة المتشائل هنا تفسيرًا لهُويّة الفلسطينيّين مواطني إسرائيل في سنوات السبعين من القرن الماضي، وقت تأليف الرواية.

التمايز والتضافر

نُشرت رواية المتشائل في ثلاثة أجزاء في مجلة “الجديد” بين السّنوات 1972-1974، وهي تروي سيرة سعيد، فلسطينيّ من مواطني إسرائيل، يصارع للبقاء في واقع ما بعد نكبة العام 1948. تُروى سيرة سعيد عبر ثلاثة أجزاء، كلّ واحد منها سُمّي كتابًا: الكتاب الأول عنوانه “يُعاد”، وهو رسالة من بطل الرواية سعيد إلى صديقه الذي يعمل مُحرّرًا لمجلة شيوعيّة،[6] يُوضح فيها لصديقه أنّه موجود برفقة كائنات فضائيّة، ويُفسّر معنى ودلالات اسم عائلته، المتشائل، ويروي كيفيّة نجاحه بتجاوز حرب 1948، ويتذكّر حبيبته الأولى، يُعاد، التي التقاها أثناء طفولته في القطار من عكا إلى حيفا. ويتذكّر سعيد كيف أصبح مُخبرًا يعمل لحساب إسرائيل، والمرّة الأولى التي زارته فيها يُعاد في بيته بحيفا، وطردها من إسرائيل. أمّا في الكتاب الثاني، وعنوانه “باقية”، يتذكّر سعيد باقية الطنطوريّة (أي من قرية الطنطورة) ويتزوّجها. تكشف باقية لسعيد عن سرّ المغارة التي تحت البحر والتي أخفى فيها والداها اللاجئان صندوقًا مليئًا بالذهب والذخيرة. فيما بعد يؤسّس “ولاء”، ابن سعيد وباقية، مع رفاقه خليّة سريّة ويختبئ في قبو تحت الأرض عند شاطئ الطنطورة. تحاول باقية إقناعه بالاستسلام وتسليم نفسه إلى السّلطات، إلّا أنّها تُغيّر رأيها في النهاية وتركض نحو ابنها، ليختفي الاثنان تحت أمواج البحر. يتطرّق الكتاب الثالث، “يُعاد الثانية” إلى حبس سعيد بتهمة النشاط المُعادي (رفع علم أبيض في حيفا أثناء حرب 1967)، وكيف التقى في السّجن سعيدًا آخر، وهو أخ يُعاد الثانية. سعيد الآخر ويُعاد الثانية هما ابن وابنة يُعاد الأولى. وهكذا يوقف سعيد تعاونه مع إسرائيل لكنّه يجد نفسه في نهاية المطاف قاعدًا على خازوق[7] عالٍ لا يمكنه النزول عنه.

تدمج حبكة الرواية أساليبَ من الأدب العربيّ الكلاسيكيّ، مثل المقامات[8] وقصص ألف ليلة وليلة وكليلة ودُمنة، إلى جانب الأدب العالميّ، وهي بهذا تُشكّل قصّة إطاريّة للكشف عن السرّ الذي يرمز للتناقض الدّاخليّ القائم في هُويّة الفلسطينيّين المواطنين في إسرائيل، مثلما يتجلى هذا التناقض أيضًا من خلال دمج التفاؤل والتشاؤم في عنوان الرّواية. ونرى دمجًا بين مَثنويّة-الأبعاد والتناقض الداخليّ من جهة مع روح الدّعابة من جهة أخرى، وهي كلّها تنعكس في اللغة والمضمون وثيمات الرّواية، كما سأتناولها عند مناقشتي للأسرار والسرّيّة فيها. وعليه، فإنّ هذه الرواية تعبّر عن البحث عن الهُويّة الفلسطينيّة في إسرائيل خلال سنوات السّبعين.[9] ويتجسّد هذا البحث برُمّته عبر الكنز المُخبّأ في المغارة عند شاطئ قرية الطنطورة التي دُمّرت بعد المجزرة التي وقعت فيها سنة 1948. في الفصل المُعنوَن “كيف أصبح سعيد “ذا السرّيْن”” يتطرّق المؤلف إلى ليلة زفاف سعيد وباقية، وإلى السّرّ الذي تكشفه أمامه ذلك المساء:

في تلك الليلة سمعت من باقية ما لم يسمعه عريس ليلة الدخلة، وما لم يسمعه عن صبية في عمرها.

قالت باقية: اسمع، يا ابن عمي! أحببتك! فبرأس أمي وبرأس أبي أحببتك. واني أحبك يا ابن عمّي. ولكنني ما أحببتك تبعث بهؤلاء الناس يطلبون يدي من خالي.

واسمع يا ابن عمي! صغيرة أنا. أصغر من السّن القانوني للزواج. ولكنني أعرف أن واضعي القانون يتجاوزونه حين تكون لهم من وراء ذلك مآرب أخرى. فما هي مآربهم؟

دعني أتكلّم، يا ابن عمّي، ولا تقاطعني.

ظللت أحبك حتى أحببتني. وها أنا عروسك، شريكة حياتك. ها نحن نعمّر بيتًا واحدًا.

أصبحت أملي، يا ابن عمّي. وأنا أريد العودة الى خرائب قريتي الطنطورة، الى شاطئ بحرها السّاكن. ففي كهف في صخرة تحت سطحه يسكن صندوق حديدي، مليء بذهب كثير، مصوغات جدتي ووالدتي واخواتي ومصوغاتي، وضعه والدنا هناك، وأخفاه، وأعلمنا بأمره حتى يلتجئ اليه كل محتاج منّا اليه.

أريدك، يا ابن عمّي، أن تتدبّر أمرنا حتى نعود الى شاطئ الطنطورة، خلسة، أو أن تعود وحدك، فتنتشل الصندوق من مخبأه، فيغنينا ما فيه عمّا أنت فيه. وأنا لا أريد لأولادي أن يولدوا محدودبين. لقد تعودت ألّا أتنفس إلّا بحريّة يا ابن عمّي!

وكنت لا أكاد أتنفس وأنا أستمع اليها، الى هذه الصبية تتكلّم بجرأة جعلتني أطبق فمي حتى أحفظ قلبي في مكانه.

فلما بلغت هذا البلغ من حديثها ظهرت لي الحقيقة التي كان جهلي بها يثير عجبي من أصحابك، يا محترم، كيف يستأسدون على السّلطة الجبّارة، ولا يهولهم رجل كبير حتى ولو لم يكن قصير قامة، مع أنّهم لا يملكون شروى نقير.

أدركت سرّكم، يا أستاذ! فكل واحد منكم، إذن، لديه صندوق حديدي، في طنطورته، حيث أخفى والده كنزه الذهبي.

فلمّا أدركت أنني، بهذا الكنز، أصبحت واحدًا منكم دون أن تعلموا من أمري شيئا، انشال همّ عن صدري.

وأعجب ما أعجبني منكم أنكم قدرتم على إخفاء هذا السّر، على الرّغم من أنّه سرّ شائع بين الألوف، بل عشرات الألوف منكم. فقلت في نفسي: إذا استطاعوا ذلك فكيف لا أستطيعه وسرّي لم يتجاوز الاثنين، باقية وأنا؟

فقمت الى باقية أطمئنها على أمانتي، وعلى رجوليتي، وأخذت أمزج دموعها بدموعي، وهو أضمن للزواج حتى من امتزاج الدم في عروق البنين، حتى هدأت واطمأنت وأصبحت شريكة حياتي.

ومنذ تلك الليلة رحت القب نفسي بذي السّرين: سرّي وسرّكم. أما معرفتي بسرّكم فقد خففتني. وأمّا معرفتي بسر باقية فقد أخافتني.[10]

تعني كلمة سرّ في اللاتينيّة (secretum) الفصلَ.[11] فضرورة وحيويّة السرّ وُلدتا من الفصل الأوّليّ بين الآلهة وبين بني البشر.[12] في مقابل ذلك، يقول دريدا إنّ الأسرار مرتبطة بالتنشئة المُجتمعيّة، وهو يرى أنّ “الصّداقة الأخلاقيّة تتطلّب ثقةً مُطلقة بأنّ شخصيْن اثنيْن بوسعهما أن يكشفا لبعضهما البعض لا انطباعاتهما فحسب، بل أحكامهما السّريّة أيضًا”.[13] ويستند دريدا إلى كانت مُوضحًا أنّ للصداقة الحقيقيّة دلالاتٍ سياسيةً هامّةً، لأنّ الأصدقاء الحقيقيّين قادرون على إشراك بعضهم البعض بأفكارهم المتعلّقة بنظام الحكم والدين وما شابه. وهذا يُفضي إلى أنّ “السرّ يُنتج دائمًا ثلاثة أدوار: الحارس، والشاهد، والمُبعَد (excluded)”.[14] في بحثه عن الجماعات السرّيّة (secret societies) شخّص عالم الاجتماع جورج زيمل (Simmel) البُعد الضابط والناظم للسرّ المشترك بين مجموعة من الأفراد. لقد رأى أنّ السرّ هو “كتمان ذو هدف، […] عنصر بُنيويّ في المجموعة يتحوّل إلى عنصر مُوحّد […] وللسرّ تقاطب مزدوج: التمايز والتضافر. فالسّرّ يُهيْكِل المجموعة وفق مبدأ الاحتواء والإقصاء، ويفصل بين أولئك المُتمكّنين من الوصول إلى معلومات معيّنة، وبين أولئك الذين لا يَعونَ ما هو غير متاح لهم”.[15]

للسرّ الذي ترويه باقية لزوجها الجديد تأثير مزدوج من التضافر والتمايز. فأولًا، السرّ الذي ورثته عن عائلتها والذي يتكشّف رمزيًّا في ليلة الدخلة، يُوحّد ويبلور العلاقات بينهما. لقد أنشأ السرّ الذي فوجئ سعيد به وحدةً مُتّحدةً من النواة العائليّة (“ظللتُ أحبك حتى أحببتني. وها أنا عروسك، شريكة حياتك. ها نحن نعمّر بيتًا واحدًا”)؛ وهو يؤسّس المدماك الأوّل في زواجهما: حبّهما المشترك هو نقطة الانطلاق. وفي أعقاب هذا تصبح عروسَه ويتحوّلان معًا إلى شريكيْن في الحياة يُعمّران سويّةً بيتًا واحدًا. الدلالة الأولى والحرفيّة لمصطلح “نعمّر بيتًا” هو تشييد بيت. لكنّ لهاتيْن الكلمتيْن دلالة إضافيّة: كلمة “نعمّر” تتطرّق أيضًا إلى العُمر المديد، أي الاستمراريّة، فيما تعني كلمة “بيت” العائلة أيضًا. بعدها تكشف باقية عن مصلحتها من وراء الزواج بسعيد: العودة إلى قريتها بغية العثور على الكنز العائليّ الذي دفنه والدُها فيها: “أصبحت أملي، يا ابن عمّي. وأنا أريد العودة الى خرائب قريتي الطنطورة”، حيث من المفترض بهذا الكنز أن ينقذهما من عار تعاون سعيد مع المؤسّسة الإسرائيليّة: “فتنتشل الصندوق من مخبئه، فيُغنينا ما فيه عمّا أنت فيه”. أمّا الاقتباس التالي لباقية فهو يرتبط بالبُعد العائليّ الذي بدأت به حديثها، ويرتبط ارتباطًا مباشرًا بقيمة الحُريّة التي تريد تنشئة أبنائها في ظلّها: “وأنا لا أريد لأولادي أن يولدوا محدودبين. لقد تعودت ألّا أتنفس إلّا بحريّة يا ابن عمّي”. يستمع سعيد لباقية بدهشة ويُدرك الصّلة بين تأسيس العائلة وبين البُعد الفلسطينيّ الجَمعيّ. وهو لم “يُثبت رجولته” إلّا بعد أن أكّد ولاءه لسرّهما: “فقمتُ الى باقية أطمئنها على أمانتي، وعلى رجوليتي”. ترتيب ونظام الأشياء هنا ليسا صدفةً، وهما يطابقان تراتبيّة وتسلسل الأمور كما وضعتهما باقية. ما نودّ قوله بكلمات أخرى إنّ ليلة الدّخلة هي اللحظة التي تنشأ فيها عائلة جديدة، وتحالف جديد يُوحّد بين الزوجيْن. التزاوج الجسديّ-الجنسيّ بينهما يضمن الاستمراريّة الجسمانيّة عبر ولادة الأبناء والبنات. لكن، وحتّى قبل نشأة المزاوجة الجسديّة، تفرض باقية شرطًا استباقيًّا يتعلّق بالسرّ العائليّ الذي من المفترض به أنّ يضمن استمراريّتهما المعرفيّة من خلال قيم الفخر القوميّ والحريّة والهُويّة. في ليلة دخلة سعيد وباقية نشأت العائلة الجسديّة الماديّة، لكن نشأت معها أيضًا القصّة الجامعة الضابطة، وهي قصّة فلسطينيّة.

الربط بين الجسمانيّ-الماديّ وبين المعرفيّ في الأدب الفلسطينيّ لم يكن محصورًا في أعمال إميل حبيبي، إذ أنّ هذا خطاب تطوّر في أعقاب حرب العام 1967، التي احتلّت فيها إسرائيل ما تبقّى من فلسطين التاريخيّة (فلسطين الجسديّة-الماديّة)، مُبقيةً على المعرفة والذاكرة والتاريخ لا غير، وهي فلسطين “معرفيّة” أصبحت محل اهتمام الكثير من المفكّرين والمثقّفين الفلسطينيّين بعد الحرب، بما يمكن تسميته “ذعر النسيان”. فهذا الذعرُ من النسيان يتمحور في المحو المعرفيّ للوجود والهُويّة الفلسطينيّيْن، ويمكن العثور عليه في روايات غسّان كنفاني وأنطون شمّاس وآخرين، من خلال ثيمات ترتبط بعلم الأنساب والوالديّة والأسرار العائليّة.[16] إنّ إدراك وفهم هذه العلاقة بين الماديّ والمعرفيّ بوسعهما أن يُفسّرا جملة سعيد التالية: “وأخذت أمزج دموعها بدموعي، وهو أضمن للزواج حتى من امتزاج الدم في عروق البنين، حتى هدأت واطمأنت وأصبحت شريكة حياتي”. إنّ امتزاج دموع سعيد وباقية (سعيد بكى في أعقاب الكشف الكبير الذي جرى أمامه تلك الليلة، وباقية في أعقاب فقدان عذريتها) أهمّ بكثير من امتزاج الدّم في شرايين أولادهما. ومن الجدير في هذا السّياق أن نشير إلى مَعنييْن مُتعلّقيْن بالجذر س.ر.ر بالعربيّة، الذي اُشتقّتْ منه كلمة سرّ. الأوّل يعني ممارسة الجنس (والسّرّ: النّكاح؛ لأنّه يُكتم)، لكنّ ما يهمّنا أكثر هو المعنى الثاني المتعلّق بالحبل السرّيّ (والسُّرُّ والسَّرَرُ: ما يتعلّق من سُرَّةِ المولود فيقطع […] وقيل: السَّرَرُ ما قُطِعَ منه فذهب. والسُّرَّةُ: مَا بَقِيَ). هذه العلاقة بين الاستمراريّة البيولوجية وبين القصّة المعرفيّة بائنة في رواية غسّان كنفاني “عائد إلى حيفا”، التي تتحدّث عن طفل فلسطينيّ نُسي في حيفا أثناء طرد سكّان المدينة الفلسطينيّين سنة 1948، وتبنّته عائلة يهوديّة-إسرائيليّة، والذي لم يتلقِ بوالديْه البيولوجييْن إلّا بعد حرب 1967.[17] مع امتزاج الدموع والأسرار صار بوسع سعيد أن يعلن أنّ باقية صارت شريكة حياته: “حتى هدأت واطمأنّت وأصبحت شريكة حياتي”.

أمّا موتيف المغارة في الرواية فهو هامّ لفهم الأسرار والتمييز الهامّ بين السرّ والسّريّة. نقول أوّلًا إنّ المغارة تشبه الأسرار لأنّها خفيّة عن العيون. وفي اللغة الإنجليزيّة تربط كلمة crypt بين المغارة والسرّ أو الكود البرمجيّ. نضيف إلى ذلك أنّ المغارة تُمثّل بُعد السرّ – أي المعلومات المحفوظة – وبُعد السّريّة، أي الوسيلة اللازمة لكتمان السرّ وتدبيره. وعليه فإنّ السّريّة هي السيرورة الاجتماعيّة للسّر، كما تقول آن دوفورمانتيل (Dufourmantelle): “لدينا نزعة قويّة جدًّا للبلبلة بين الباب المُقوّى وبين ما يوجد خلفه”.[18] صندوق الذهب والذخيرة في المغارة هو المضمون (السرّ)، المُخبّأ باستخدام السريّة (المغارة).

ويرتبط موتيف المغارة ببُعد آخر من السرّيّة موجود في الرواية. يقول زيمل إنّ السّريّة هي “أحد أكبر إنجازات البشريّة […] لأنّها تحوي في طيّاتها وعدًا بوجود عالم ثانٍ إلى جانب العالم الحقيقيّ”، وهي متأثرة به بشكل كبير.[19] أمّا ليطال ليڤي التي عملت على تحليل موتيف المغارة في الروايات الفلسطينيّة (المتشائل لإميل حبيبي، وآرابسك لأنطون شمّاس، وباب الشمس لإلياس خوري، رغم أنّ الأخير ليس فلسطينيًّا) فقد توصّلت إلى استنتاج يُفيد بأنّ المغارة ترمز إلى “حيّز فلسطينيّ بديل” بمقدوره أن يكون تمثيلًا للماضي، وللأمل بمستقبل أفضل أو بالوعي الذاتيّ.[20] الأسرار الفلسطينيّة التي تحمي الماضي هي إذًا ضمانة للاستمراريّة الماديّة والمعرفيّة. بوسع الكنز أن يضمن معيشة الناس، وبوسع القصّة أن تُوحّدهم.[21]

هكذا نرى أنّ الأسرار تشكّل عنصرًا مركزيًّا في الهُويّة،[22] والأسرار العائليّة هي في ذات الوقت عنصر جامع مُنتج لهُويّة عائليّة، وتحافظ على الاستمراريّة لأجيال قادمة، وهي عنصر يحمي العائلة من الخضوع للسّيطرة أو للتدخّل الخارجيّ.[23] إنّ الربط الذي أنشأه حبيبي بين الكشف عن السرّ العائليّ في ليلة الدخلة وبين الفخر القوميّ، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة الهُويّة،[24] ولو توخيْنا دقةً أكبر لقُلنا: ببُعد التمايز. فالسرّ العائليّ يُعرّف حدود الانتماء إلى العائلة: مَن يكون جزءًا منها ومُطّلعًا على السرّ الجامع، ومَن ليس جزءًا منها ولذلك فهو غير مُطّلع على هذا السرّ. السرّ العائليّ في المتشائل هو استعارة عن القوميّة. أمّا السرّ الثاني لسعيد فهو فهم وإدراك قوّة السرّ. وها هو كييل ڤاينبيرچ أيضًا يتوقّف عند العلاقة بين الهُويّة والسّريّة في رواية حبيبي:

…sought amidst extraterrestrial sorties, subterranean catacombs, and the sea, is the very possibility of secrecy itself. It is his discovery that identity need not always be sanctioned, avowed, or remain entirely the same. This resistant secrecy takes shape alternatively as buried treasure, flight, lies, and literature. Through parodic and critical gestures, the novel offers a complex message about compromised identities, and the necessity of secrecy and subterfuge under a state of occupation. [25]

ما يلزمنا لكتم معلومةٍ ما سرًّا، أن نعرف أيضًا ما هي المعلومات التي نريد أن نتكتّم عليها، وأن نتأكّد أيضًا من أنّ الآخرين لا يعرفونها.[26] بكلمات أخرى، يكتشف سعيد أنّ السرّ هو شأن سياسيّ،[27] ولذلك فهو على صلة وثيقة بعلاقات القوى. ويدّعي روس تشيمبرس أنّ “هؤلاء الذين يُمسكون الزمام [السرّ والقوّة] موجودون في مكانة تُمكّنهم من تسخير رغبة [الذين لا يعرفون بالسرّ] بالمعرفة من أجل تحقيق غاياتهم، أو لنشر العديد من الأمور الغامضة (في حالة أولئك الذين يفتقرون للوعي بما يحدث)”.[28] وهكذا نرى أنّ مَردّ المفاجأة والدهشة لدى سعيد الذي يكتشف قوّة السّريّة كامنٌ في هذه النقطة بالذات: فهم سرّ القوّة وقوّة السرّ حوّلاه من إنسان مُعدَم مضطرّ لخدمة المؤسّسة الإسرائيلية للنجاح في البقاء، إلى إنسان قادر على مُناورة مبنى القوّة لصالحه. وفي الصفحات التالية من الرواية يستكشف سعيد هذا الأمر في مقابل رقابة “الشخص الكبير” (استعارة تناصّيّة من “الأخ الأكبر” في رواية 1984 لجورج أورويل)، الذي يُخفق في الكشف عن أسرار سعيد: لا عن لقاءاته مع الكائنات الفضائيّة في عكّا ولا عن السّر العائليّ المتمثّل بالصندوق المدفون في شاطئ الطنطورة.

يكتب دونسكيس ضمن سياق سياسيّ يربط بين الأسرار وبين القوّة عبر أشكالها وصورها المختلفة: “السرّ هو مسألة قوّة، سواءً أكانت بالمفهوم الكُلّي أم بالمفهوم الحصريّ. السرّ يتبدّى دومًا كبُعد حاسم للقوّة […] فَكتمان السرّ – من أسئلة امتحان جامعيّ وحتّى تفاصيل الحساب البنكيّ – هو مسألة ترتبط بتعزيز الفرد وتحقيقه لذاته أو لذاتها”.[29] لقد كان للسّر العائليّ الذي روته باقية لسعيد نتيجة مُعزّزة؛ فأوّلًا، أدّى الكشف عن السرّ العائليّ الجديد إلى توثيق العلاقة بينهما. إلّا أنّ الأهمّ من ذلك التعزيز القوميّ لدى سعيد، الذي شعر وتصرّف حتّى تلك اللحظة كفرد وحيد بلا حيلة. وبكونه شخصًا انشغل بالكشف عن الأسرار لأنّه متعاون مع المؤسّسة الإسرائيليّة فإنّه يُدرك الآن أنّ علاقات القوى انعكست، ويُدرك سرّ الشيوعيّين على غرار صديقه مُحرّر المجلة: “فلمّا أدركت أنني، بهذا الكنز، أصبحت واحدًا منكم”. في اللحظة التي أدرك فيها سعيد قوّة الشيوعيّين “الذين يستأسدون على السّلطة الجبّارة”، تحوّل إلى واحدٍ مثلهم: رجل لا يهاب.

تمنح السّريّة لحاملي الأسرار شعورًا بالتملّك ومكانة قوّة خاصّة.[30] فقيمة السّرّ تفوق القيمة الماديّة لمضمونه، أي تلك التفاصيل حول وجود كنز في مغارة عند شاطئ الطنطورة. القيمة الأهمّ كامنة في هُويّة سعيد القوميّة والجَمعيّة، الذي بدأ منذ هذه اللحظة بتكلّم اللغة “الفلسطينيّة”. ومن المثير أن نقول هنا إنّ الجزء الثالث من الرّواية يُمثّل تغييرًا في التوجّه داخل الخطاب الفلسطينيّ، وذلك عبر اللقاء بين سعيد المتشائل وبين سعيد الثاني، ابن يُعاد، الفدائيّ الفلسطينيّ الذي همّ إلى الحرب.[31]

نرى التغيير بشكل مباشر في ليلة دخلة سعيد وباقية، وذلك من شكل فهم وإدراك سعيد للواقع السياسيّ المحيط به، ولقوّة الأسرار على تبيُّن طريقها داخل هذا الواقع. وعلى غرار الأسرار كلّها، فإنّ كتمان السرّ لدى سعيد هو قرار واعٍ، كما تقول سوزان كرسمان: “علينا أن نُنتج شيئًا ما داخل سرٍّ كي نكون قادرين على أن نعي الحاجة لإخفائه”.[32] أمّا سليپيان فيُعرّف السرّيّة بكونها نيّة (intention) إخفاء المعلومات.[33] لكن من أين تأتي هذه النيّة لإخفاء المعلومات؟

ردّ على الرقابة

يكتشف سعيد في ليلة دخلته على باقية أنّ البقاء كفلسطينيّ في إسرائيل وحماية الذات من التدخل الخارجيّ والمحو، يُوجبان حماية القصّة العائليّة، التي هي أمثولة للقصّة القوميّة.[34] لقد ورثت باقية (وهي اسم على مُسمّى) السرّ من عائلتها وورثت معه الإدراك بأنّ عليها أن تنقله إلى الأجيال القادمة. ولذلك فهي تكشف السّر أمام ابنهما ولاء، مع الوعي لمعنى الاسم الذي تقصَّده الكاتب. وهكذا رأينا الأمّ التي كانت تتحلّى بوعي قوميّ مُتّقد تُشرك ابنها في السرّ العائليّ، الأمر الذي سبّب لدى ولاء تناقضًا داخليًّا أصعب من أن يُحتمَل، ليقوم في نهاية المطاف هو ورفاقه بتأسيس خليّة مقاومة لمحاربة إسرائيل. بعد الكشف عن نشاط الابن السّياسيّ يختبئ في قبو أحد البيوت المهجّرة في الطنطورة، مُحاطًا بالشرطة التي أحضرت سعيد وباقية كي يُحاولا إقناعه بالخروج من مخبئه والاستسلام. هكذا تنادي باقية على ولدها:

– ولاء يا ولدي، الق سلاحك واخرج!

– يا امرأة، يا التي جئت معهم، الى أين أخرج؟؟

– الى الفضاء الرّحب يا بني. كهفك ضيّق، مسدود كهفك. وسوف تختنق فيه.

– أختنق؟.. أتيت الى هذا الكهف كي أتنفس بحريّة. مرّة واحدة أتنفّس بحريّة!

في المهد حبستم عويلي. فلما درجت أبحث عن النطق في كلامكم، فلم أسمع سوى الهمس.

في المدرسة حذرتموني: احترس بكلامك! فلما أخبرتكم بأنّ معلمي صديقي، همستم: لعله عين عليك! ولمّا سمعت حكاية الطنطورة، فلعنتم، همستم في أذني: احترس بكلامك!

فلما لعنوني:

احترس بكلامك!

وحين اجتمعت بأقراني، لنعلن إضرابًا، قالوا لي، هم أيضا: احترس بكلامك!

وفي الصّباح، قلت لي، يا أمّاه: انك تتكلّم في منامك، فاحترس بكلامك في منامك!.. وكنت أدندن في الحمام، فصاح بي أبي: غيّر هذا اللحن. إنّ للجدران آذانا، فاحترس بكلامك!

احترس بكلامك! احترس بكلامك!

أريد ألّا احترس بكلامي، مرّة واحدة!

كنت أختنق!

ضيّق هذا الكهف يا أمّاه، لكنه أرحب من حياتكم!

مسدود هذا الكهف يا أمّاه، ولكنه منفذ![35]

يتعقّب الأدب النفسانيّ الذي يتطرّق إلى الأسرار والسّريّة أثرَ استخدامهما كوظيفة مجتمعيّة في الطفولة المُبكرة. ويقترح باحثون في هذا المجال بدء النقاش حول الأسرار لدى الأطفال بالذات، لأنّ الأسرار تشكّل جزءًا هامًّا في تنشئتهم المُجتمعيّة. الأسرار لدى الأطفال هي ردّ فعل على المراقبة (surveillance) المستمرّة التي يخضعون لها؛ فأن تكون طفلًا يعني أن تكون تحت رقابة الكبار الدائمة، وتحت رقابة أطفال آخرين أيضًا.[36] ويقول ڤيكتور تاوسك (Tausk)، تلميذ فرويد، إنّه من المفترض بأهالي الأطفال الصّغار أن يعرفوا كلّ شيء، بما في ذلك أكثر الأفكار سرّيّةً وكتمانًا، إلى أن يكتشف الطفل أنّ بوسعه أن يكتم الأسرار عن والديْه. هذه مرحلة أساسيّة في تطوّر الأطفال، أو كما يقول تاوسك: “السّعي إلى كتمان الأسرار التي لا يعرفها الأهل هو أحد أقوى العوامل الضالعة في خلق الأيچو، وخصوصًا في ترسيخ وتطبيق الإرادة الذاتيّة”.[37]

تتطرّق السّريّة في المتشائل إلى الرقابة عبر مستوييْن اثنيْن؛ الأول هو رقابة الوالديْن على ابنهما منذ نعومة أظفاره. فولاء الذي كبر تحت رقابة صارمة وقُوّتيْن متناقضتيْن (الهُويّة القوميّة الفلسطينيّة مع الولاء لدولة إسرائيل) وجد طريقةً للالتفاف على الرقابة وأنشأ خلية مقاومة هو ورفاقه. والاقتباس أعلاه يعكس الرقابة التي تؤدّي إلى الإسكات، إذ أنّ خوف وقلق الوالديْن من انفضاح السرّ العائليّ يُجسّد الرقابة الذاتيّة التي يحاولان فرضها على ابنهما. “احترس بكلامك!” يقولان له مُذكّريْن حاملي السرّ بقواعد وأصول السّريّة، من دون التطرّق مباشرة إلى العوامل الموجودة خارج دائرة المُطّلعين على السرّ. إلّا أنّ السرّ العائليّ ينفضح لأنّه كان أثقل من أن يُحتمَل – كما يقول سليپيان وباحثو أسرار آخرون. ينبع هذا الثِّقل من فعل الإسكات ذاته، إذ أنّ واجب الإسكات نتاجٌ للرقابة – الرقابة الذاتيّة أو رقابة الآخرين – والتي من الممكن فهمها على أنّها شكل من أشكال العنف المعرفيّ. وهكذا يكون ردّ فعلها النقيض انفجارًا عنيفًا، وقد تجسّد ذلك في حالة ولاء من خلال تأسيس خليّة تنادي بالمقاومة المُسلّحة.

أمّا المستوى الثاني للسرّيّة في المتشائل فيتطرّق إلى البُعد الخارجيّ للسّريّة، أي إلى رقابة الدولة على مواطنيها، والتي تتجسّد في شخصيّة “الرجل الكبير” (رمز آخر للأخ الأكبر) الذي يحرص على تذكير سعيد:

ولتعلم أنه لدينا وسائل حديثة نضبط بها حركاتك وسكناتك حتى ما تهمس به في أضغاث أحلامك. وبأجهزتنا الحديثة نعرف كل ما يدور في هذه الدولة وخارجها.[38]

لكن منذ اللحظة التي يُدرك سعيد فيها القوّة الكامنة في السّريّة، تفقد رقابة الرجل الكبير هي الأخرى من سطوة ردعها. الرقابة في رواية إميل حبيبي محكومة بالفشل: فعندما تُدرك السّريّة وجودَ الرقابة يُصبح بإمكانها اللجوء إلى الطّرق نفسها بالضبط. وهذا ما يوضحه كاوفمان: “المعرفة والمراقبة (watching) وأيضًا السّريّة هي أدوات قوّة”[39] وهي لا تناقض بعضها البعض بالضرورة. مثالُ ذلك أنّ سعيدًا يحتفظ لنفسه بورقة سريّة أرسلتْها له يُعاد، حبيبته الأولى، ويمكنه بوساطتها أن “يعصى الجهاز” ويتحدّاه:

وهي الورقة السّرية الوحيدة التي احتفظت بها طول هذه الأعوام العشرين لكي أقنع نفسي بأنني قادر على تحدي الجهاز، ولأنني اعتبرتها عقد زواج.[40]

هذه الورقة السّريّة تحمل هي الأخرى وعدًا بالاستمراريّة العائليّة-القوميّة، التي أضحت منذ عام 1967 مرتبطةً بسرٍّ، برواية سرديّة تُوحّد وتُفرق في الوقت ذاته. الورقة التي احتفظ بها سعيد تتطرّق إلى إمكانية وأمل إعادة لمّ شمل الفلسطينيّين مواطني إسرائيل مع أخوتهم خارج إسرائيل بين 1948-1967. هذه الورقة – السرّ – تُعين سعيدًا على صراع البقاء لمدّة عقديْن من الوحدة والضياع. لكنّ من يملك سرًّا (“صندوق حديدي، في طنطورته، حيث أخفى والده كنزه الذهبي”) يملك القوّة لمواجهة العدائيّة.[41] السّريّة هي ردّ فعل على البانوبتيكون.[42] ويستنتج ڤاينبرچ أنّ رغبة سعيد المتشائل بالأسرار تشكّل تقويضًا لتعاونه مع إسرائيل. بل أكثر من ذلك، تحمل السّريّة في طيّاتها إمكانية تجسيد هُويّة مستقلّة، وعمليا السعي لتقويض قوة البانوبتيكون.[43]

نرى أنّ التَدابِير العائليّة-القوميّة لدى سعيد وباقية بخصوص سرّهما، إخفاءه واستخدام السّريّة كأداة بقاء شخصيّة وجمعيّة في إسرائيل، تثير كلّها سؤال أخلاقيّة السّريّة والأسرار. من المُتبع في علم النفس المجتمعيّ الإيمان بأنّ الأسرار قد يكون مصدرُها الخوف من تغيير انطباع الآخرين عنّا. تعتقد كارول ڤيرن وباربرا ليسلت أنّ للسّريّة تداعياتٍ سلبيّةً، وقد يُنظر إليها بأنّها غير شرعيّة أيضًا.[44] أمّا كتاب ومشروع العالم النفسانيّ مايكل سليپيان المستمرّ[45] فيجمع 38 فئة مختلفة من الأسرار، وهو يتفحّص كيفيّة تعامل الناس مع عبء كتمان الأسرار، ولماذا يكون هذا الأمر مَنوطًا بالمصاعب.[46] يشير سليپيان إلى ثلاثة أبعاد من السّريّة: سؤال مدى كونها أخلاقيّة، وسؤال ما إذا كانت مرتبطة بالعلاقات مع الآخرين، وسؤال ما إذا كانت مرتبطة بغايات شخصيّة مهنيّة.[47] تُظهر نتائج هذا البحث إلى الأمر التالي: كلّما كانت نظرتنا إلى تجربتنا المُعاشة غير أخلاقيّة، تَعزَّز ميلُنا للتعامل معها بأنّها سرّ.[48] إلّا أنّ سؤال أخلاقيّة الأسرار التي ينشغل فيها علم النفس المُجتمعيّ لا ينعكس بالضرورة في كلّ المجالات. فلنأخذ مثلًا الأسرار الصناعيّة (من تطويرات تكنولوجيّة وبراءات اختراعات وغيرها) التي تمنح مالكيها قيمة ماديّة أو استراتيجيّة هامّة (مثل الفوز بشريحة أكبر من السوق والمبيعات)، فهذه لا تُعتبر غير أخلاقيّة.[49] ولنأخذ أيضًا مسألة إخفاء مرض صعب عن أفراد العائلة والأصدقاء كي نوفّر عليهم الألم أو القلق، إذ أنّ ذلك لا يُعتبر فعلًا غير أخلاقيّ، تمامًا كما أنّ كتم الأسرار في سياق النجاة بسبب الدين والمعتقد أو كمجموعة قوميّة ملاحَقة لا يحمل أيّ تداعيات سلبيّة. وعليه، فإنّ الاختبار القيَميّ لا يساعدنا على فهم ماهيّة السرّ، لأنّ بمقدور السرّ أن يكون أخلاقيًّا أو غير أخلاقيّ.

الباطن والظاهر

تشير رُلا أبي صعب (Rula Jurdi Abisaab) إلى وجود علاقة مباشرة بين موروث أدب المقامات، والتي أسّس عليها حبيبي روايته، وبين السرّيّة.[50] فهي تُناظر بين “الباطن” و”الظاهر” في المتشائل وفقًا لتوجّهات إخوان الصّفا، وهم مجموعة من الفلاسفة المسلمين من القرن العاشر حاولوا الرّبط بين الديانة الإسلاميّة وبين الأفكار الفلسفيّة. وما ميّز هذه المجموعة قراءتهم للنصّ الدينيّ (الظاهريّ) الذي يحمل بالتأكيد دلالات مكشوفة وبائنة، إلّا أنّهم سعوْا باتّجاه البحث عن الدلالات العميقة والخبيئة (الباطنيّة) بغية فهم هذا النصّ بصورة أفضل. وتُوجز أبي صعب قائلةً: “إنّ الراوي يعرف متى ولِمَن يكشف الأسرار، ويكتسب خبرة استخدام هذه الأسرار من أجل تغيير الواقع السّياسي”.[51] ونحن نرى أنّ تحليلها يُضيف بُعدًا جديدًا على الازدواجيّة التي تميّز كتابات إميل حبيبي، وبإمكانه أن يلقي الضوء على كيفيّة فهمنا للأسرار – في الرواية وبشكل عام. يتجسّد الباطن والظاهر في مُركّب إضافي أساسي وهو أنّ الأسرار تكون مكوّنة دائمًا من نسيج اللغة.[52] تكمن خاصيّة الأسرار في ضرورة أنّ إخفاءها أو كشفها يجب أن يَتِمّا بواسطة اللغة،[53] وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته في المتشائل بأشكال مختلفة.

تعتقد دوفورمانتل أنّ سرّ الأسرار كامن في الفصل بين الوعي واللا-وعي، أو أنّ كلّ واحدٍ منّا يملك سرًّا ما يجعلنا أوصياء على تاريخنا الشخصيّ.[54] ويكمن الإبداعُ في فهم وإدراك القوّة الموجودة في الكتمان، وفي معرفة ما يجب إخفاؤه وما يجب إظهاره؛ ما يجدر قوله وما يجدر الاحتفاظ به لأنفسنا. وسعيد يعيش تحت المراقبة المتواصلة التي تُذكّرنا بالبانوبتيكون، لكنّه لا يُطوّر وعيًا بقوّة الأسرار إلّا في أعقاب حديثه مع باقية ليلة الدخلة.[55] ونرى تجسّد الباطن والظاهر في الاقتباس التالي، الذي يصف فيه سعيد ازدواجيّة تصرّفاته السياسيّة، حتّى عندما كان ما يزال يخدم المؤسّسة الإسرائيليّة:

وصار الشيوعيّون يسمون الحارس على الأملاك المتروكة بالحارس على الأملاك المنهوبة، فأخذنا نلعنهم علانية ونردّد أقوالهم في سرائرنا.[56]

هذا مثال ساطع على الظاهر والمُستتر في تأقلم سعيد مع سياسة الرقابة على الفلسطينيّين في إسرائيل، لكنّه ليس المثال الأوحد الذي يُجسّد الإبداع في التهرّب من الرقابة. تربط مارييل كاوفمان (Kaufmann) متأثرةً بفوكو بين الرقابة وبين السيطرة والاهتمام (care) بغية تفسير العلاقة بين الرقابة وبين السرّيّة.[57] الأسرار بطبعها أدائيّة وهي تحوي أكثر من مجرّد التهرّب البسيط من المراقبة:[58] “الأسرار […] وضعيّة من التعامل المبدع مع الرقابة وهي تجربة من الرقابة الذاتيّة (self-surveillance). إنّها تُشجّع على الأفكار الجديدة، لكنّها تدفع أيضًا باتّجاه أفكار خلّاقة لا غاية أخرى من ورائها”.[59] إذًا، تتمثّل لعبة الظلال التي يلعبها سعيد في اسم ابنه أيضًا. فسعيد وباقية رغبا بتسمية ابنهما فتحي (أي: الفاتح) لكنّهما اضطرّا لتسميته ولاء، ليتحوّل إلى فتحي مستتر يحمل في داخله الرسالة التي رغبت أمّه بأنّ يحملها، عبر ممارسة الباطنيّ والظاهريّ كما سيتضّح حقًّا في الكتاب الثاني. فرسالة ولاء الداخليّة، واسمه المعروف للجميع يشبهان مغارة الكنز المخفيّة تحت مياه البحر.[60] ويكتشف سعيد أنّ الرجل الكبير لا يملك قوّة خارقة حقيقيّة تُمكّنه من قراءة الأفكار والأحلام، ولذلك فإنّ الرقابة التي يمارسها مع باقية على ابنهما تنحصر في إخفاء أفكاره فقط، أي الإسكات: “احترس بكلامك”، يقولان له، لا “احترس بأفكارك”.

هذا الكلام المزدوج، الظاهر والباطن، ينعكس أيضًا في لغة الرّواية، وخصوصًا في المفارقة والفكاهة اللتيْن تتخلّلانها. في هذا السّياق يدّعي بيتر هيث:

استخدم حبيبي أسلوب تجاور مرجعيات التّناص وأفكار وأفعال سعيد ليؤكد أنّه وبالرّغم من أن الفلسطينيّين قد تعلموا عن الملوك، والأبطال، وكبار المفكّرين من الماضي، إلّا أنّ حقائق الحياة اليومية التي يواجهونها مختلفة عن ذلك تمامًا. إنّ الفجوة بين الخطاب الثقافي والواقع الحالي كبيرة جدًّا. من هنا، فإن التّوقع أو الطلب من شخص مثل سعيد، الذي هو لابطل(anti-hero) أكثر منه بطلًا، ويفتقر إلى المآثر البطولية، بأن يحاكي أمجاد أسلافه، هو أمر غير واقعي وبصورة مثيرة للسّخرية.[61]

يقدّم لنا استنتاجُ هيث تفسيرًا للخطاب السّياسيّ المُحْجِم (الخامل؛ passive) في الرواية، الذي يحظر على الفلسطينيّين المشاركة في المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل، مع أنّ هذا يُشكّل خطاب صمود. يُضاف إلى ذلك أنّ روح الدعابة والسّخريّة هما على غرار السرّيّة ثُنائيّا الأبعاد – بمعنى أنّ لهما جانبًا داخليًّا وجانبًا خارجيًّا – ولذلك فإنّ “روح الدّعابة في الرواية تستند إلى التضارب والعبثيّة. الدعابة المكسورة التي تَستبدل فيها الضحكةُ اليأسَ وتُزيحه، هي التي تنتج الكوميديا التراجيديّة”.[62]

يمكننا الاستدلال على شهادة أخرى تدلّ على الظاهريّ والباطنيّ في الرواية إذا ما تفحّصنا الخطاب السياسيّ في الكتاب، مقابل تمثّلاته الحيّزيّة. يتجلّى الخطاب السياسيّ في الرواية عبر المشهد الذي تمحور في ولاء والمغارة، وبعده في دعوة سعيد للصّبر على الخازوق، ما يُشير إلى معارضة المؤلّف لمشاركة الفلسطينيّين في إسرائيل بالنضال المسلّح، وهو خيار بدأ يبرز تدريجيًّا بعد حرب 1967. وفي واقع الحال، من المحتمل جدًّا أنّ قصّة ولاء ورفقائه الذين انتشلوا صناديق الذخيرة التي أرسلها فدائيّو “فتح” من لبنان، ومعها العلاقة مع شاطئ الطنطورة، تستندان إلى أحداث حقيقيّة ارتبطت بمجموعة من الفلسطينيّين مواطني إسرائيل أسّسوا خليّة تابعة لفتح (المجموعة 778) وحاولوا تدبير عدّة عمليّات مقاومة مسلّحة ضدّ إسرائيل بعد 1967. وقد اُعتقل أعضاء المجموعة وحوكموا، ثمّ أُطلِق سراحهم كجزء من اتفاقية تبادل أسرى مع فتح.[63] في مناقشة انعقدت حول الرواية في حيفا في تشرين الأوّل/ أكتوبر 1974[64] بمشاركة المؤلّف، كرّر حبيبي ثانيةً موقفه المعارض لمشاركة الفلسطينيّين مواطني إسرائيل في المقاومة المُسلّحة:

لقد اجتهدتُ في قصّة المتشائل أن أكون أمينًا للشعب الذي أكتب عنه وله. وقد عملتُ قاصدًا على إبراز المواقف السّلبيّة المتطرّفة التي برزت بين فئات شعبنا وما سبّبته لنا من ويلات.. وإلى جانبها أبرزت دور المواقف الإيجابيّة التي عارضت التطرف.. وآمنتُ بالطريق العقلانيّة البعيدة عن العواطف وتأثراتها.[65]

رغم أنّه يُمكننا أن نتكهّن بما قصده حبيبي بـ”المواقف المتطرّفة”، إلّا أنّ الوصف الحيّزيّ في الرّواية هو وصف بُنيويّ ومخفيّ-باطنيّ. وخلافًا للخطاب السياسيّ المُحْجِم فإنّ الخطاب والتمثيل الحيّزييْن في الرواية هما مُقْدِمان (فعّالان؛ active). فحبيبي يُعارض المحو المعرفيّ عبر استعانته بالكشف والتوثيق اللذيْن يُبرزان فلسطينيّة الحيّز، والتاريخ العربيّ الطويل المتأصّل فيه، إلى جانب الذكريات الشخصيّة التي ملأته. وبما أنّ الرّواية طافحة بأسماء الأماكن العربيّة-الفلسطينيّة فإنّه بالإمكان أن نَصِفَ التمثّلات الحيّزيّة لدى حبيبي بأنّها مقاومة جغرافيّة. فهو يستخدم أسماء الأماكن الفلسطينيّة الأصليّة عبر تقنيّتيْن اثنتيْن: التكرار والأصلانيّة. يتبدّى التكرار عبر ظهور أسماء أماكن فلسطينيّة في الرّواية أكثر من مئة مرة وبوتيرة عالية، فيما اُستخدمتْ أسماء أماكن إسرائيليّة ستّ مرّات فقط. أمّا المستوى الثاني من التكرار فيتعلّق بالبُعد التاريخيّ حين يوثّق حبيبي التاريخ ومعه عشرات القرى الفلسطينيّة التي دُمّرت وهُجّرت إبّان النكبة. على سبيل المثال ما حدث مع سعيد حين اختبأ في مسجد الجزار في عكّا، إذ توجّه إليه الكثيرون من المختبئين هناك والذين كانوا عرضةً للطرد في الغداة:

نحن من الكويكات، التي هدموها وشرّدوا أهلها، فهل التقيت أحدا من الكويكات؟

…أنا من المنشية. لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور. فهل تعرف أحدا من المنشية [؟]

…نحن من عمقا، ولقد حرثوها، ودلقوا زيتها. فهل تعرف أحدا من عمقا؟[66]

تظهر أسماء القرى في مطلع كلّ جملة وفي نهايتها، بينما ترد في المنتصف معلومات تاريخيّة تتعلّق بمصير كلّ قرية. بكلمات أخرى: باستثناء السرّ المكشوف – حرفيًّا – الذي يرويه المتشائل، يقوم حبيبي بتشفير سرّ إضافيّ في ضمن النصّ، وذلك عبر استخدام أسماء الأماكن الفلسطينيّة.[67] يشابه مبنى الخطاب هنا المنطقَ الذي يناقض السرّيّة: كتمان السرّ هو فعل مقصود، رغم أنّه في حدّ ذاته إمساك، وهُجوع، وصمت. إنّ هُويّة المتشائل المزدوجة تتطابق مع الإجماع السياسيّ الذي توصّل إليه الفلسطينيّون في إسرائيل في سنوات السبعين والثمانين، والذي يحوي ثلاثة مُركّبات وفق نديم روحانا: 1) دعم مطلق لإقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينيّة؛ 2) المطالبة بالمساواة المدنيّة التامّة في إسرائيل؛ 3) الاتفاق على أن يكون أيّ نشاط سياسيّ في ضمن إطار القانون الإسرائيليّ.[68] وتتطابق هذه العناصر الثلاثة مع الخطاب الظاهر في رواية إميل حبيبي.

السرّ والخيال السياسيّ: ما الداعي لكتابة السرّ؟

يرى القرّاء الفلسطينيّون أنّ المتشائل هي رواية عن قوّة الخيال السياسيّ الجمعيّ. ويتطرّق حبيبي إلى هذا صراحةً في الفصل المُعنوَن “بحث عجيب في الخيال الشّرقي وفوائده الجمّة”، إذ يصف سعيد لصديقه الصحفيّ طرق البقاء اليوميّة التي ينتهجها الفلسطينيّون في إسرائيل، ومحاولتهم الاندماج في المجتمع الإسرائيليّ (مثالُ ذلك تغيير الأسماء: سليمان الذي يصبح شلومو، ومحمد الذي يصبح دودي)، ويسأله: “ولولا هذا الخيال الشرقيّ هل استطاع عربك، يا معلم، أن يعيشوا في هذه البلاد يومًا واحدًا؟” (129).

باستثناء إدراك وفهم قوّة السرّ فإنّنا لا نعرف شيئًا عمّا يتخيّله سعيد بالفعل. فالرواية لا تدور عمّا يتخيّله الفلسطينيّ، لا على شاكلة يوتوبيا من “الحياة المشتركة” أو “السّلام الأبديّ”، ولا على شاكلة واقع قياميّ كابوسيّ مستقبليّ. كما أنّ المتشائل ليست رواية تعليميّة-تلقينيّة تسعى لتربية القراء على قيم مُعيّنة، لأنّ حبيبي لا يكشف فيها عن أيّ سرّ قوميّ فلسطينيّ هامّ، بل يُفصح في واقع الأمر عن سرّ معروف، وهو تناقض لفظيّ، لأنّ السرّ المكشوف ليس سرًّا. إنّه يكشف أمام قرّائه الفلسطينيّين والعرب (وبعدهم للقراء باللغات الأخرى) أنّ المقاومة المباشرة ليست ناجعة أو مُفيدة للفلسطينيّين في إسرائيل، وأنّ سكوتهم لا يعني الضعف، بل هو قوّة. ويرى حبيبي أنّ المقاومة المباشرة قد تبدو بطوليّة ورومانسيّة (كما فعل ولاء على شاطئ الطنطورة)، إلّا أنّها تفتقر للطائل السياسيّ الحقيقيّ. ويضيف حبيبي بأنّ الفلسطينيّين في إسرائيل مُجبرين على تبنّي خيال سياسيّ بديل لخطاب المقاومة الفلسطينيّة بعد 1967، يكون ملائمًا لسياقهم السياسيّ العينيّ.

يعود سببُ ذلك إلى أنّ الخيال السياسيّ هو أمر سِياقيّ دائمًا، ولأنّ السرّ يُمكّن من وجود خيال سياسيّ يسعى لتقويض الرقابة وبوسعه الالتفاف عليها. من هنا نرى أنّ السرّ يتحوّل إلى أداة طيّعة ومرنة للبقاء (لكلّ واحد “صندوق حديدي، في طنطورته، حيث أخفى والده كنزه الذهبي”)، وذلك في سياق سعيد وفي سياق المواطنين الفلسطينيّين في إسرائيل الذين يعيشون تحت رقابة صارمة. وعليه فإنّ السرّ هو أداة سياسيّة فعّالة لأولئك الموجودين في الجانب الضعيف من ميزان القوى. وعليه، فإنّ رقابة الدولة الشديدة على الفلسطينيّين هدفُها الدقيق منعهم من تطوير خيال سياسيّ جمعيّ؛ فإسرائيل لا تكتفي باحتلال الحيّز الماديّ الفيزيائيّ، بل تسعى أيضًا لاحتلال الوعي الفلسطينيّ ومراقبته. أمّا السرّ فإنّه يُمكّن الفلسطينيّين من التنصّل من الرقابة المُمارَسة على خيالهم السياسيّ. وكما رأينا، نبعت نقطة التحوّل في حياة سعيد ليلة الدخلة من إدراكه بأنّ بوسعه التنصّل من رقابة الدّولة. أي أنّ ما نودّ قوله هنا إنّ المتشائل يرينا كيف أنّ الخيال السياسيّ يكون واعيًا دائمًا لعلاقات القوى، ويُبيّن لنا أيضًا قدرة السرّ على قلب موازين القوى هذه. ويتبدّى الأمر بوضوح في الفارق بين الفصول الأولى من الرواية التي يطغى عليها خنوع سعيد الفلسطينيّ الذي عاد إلى حيفا بعد الحرب عام 1948، وبين الفصول الأخيرة التي يُدرك فيها سعيد الأوّل وسعيد الثاني أنّ تصرّفاتهما السياسيّة يجب أن تلائم منظومة القوى التي يعيشان فيها: سعيد الفلسطينيّ المواطن في إسرائيل هو قريب عائلة سعيد الفلسطينيّ الذي يعيش خارج إسرائيل، والذي بوسعه المشاركة بالمقاومة المُسلّحة.

وتشير الرّواية إلى أنّ التغيير السياسيّ-المُجتمعيّ يجب أن يكون نتاجًا لجُهد جمعيّ. ويبرز هذا الأمر بوضوح في الفارق بين سعيد في مُستهلّ الحبكة حين كان يتصرّف كفرد وحيد، مقابل سعيد الجمعيّ بعد زواجه من باقية. لقد ساعده عُنصرا التمايز والتضافر الخاصّان بالسرّ على بلورة هُويّته والانتماء مُجدّدًا إلى الجَمع الفلسطينيّ. وبكلمات أخرى: لقد مكّنهُ السرّ من البدء بممارسة الخيال السياسيّ. وهذا الخيال السياسيّ يؤثّر على الرؤية المستقبليّة الفرديّة والجَمعيّة، والتي تنعكس عبر تأسيسه لعائلة مع باقية على أساس قيم قوميّة فلسطينيّة ورغبة في البقاء.

زدْ على ذلك أنّ السرّ يُشجّع الإبداع السياسيّ، كما حدث في حالة سعيد وكيفيّة تصرّفه مقابل رقابة الدّولة. فالخطاب المكشوف والمُستتر، الظاهريّ والباطنيّ، يمنح مرونة خلّاقة، وبالتالي قيام حبيبي بتجاوز الرقابة وإدخال خطاب حيّزيّ فلسطينيّ تقويضيّ إلى روايته.

تلخيصًا، نقول إنّ المتشائل رواية عن الأسرار، وكتمها، ومشاركتها، وكشفها. وكما رأينا في رواية حبيبي فإنّ السرّيّة تضمن إمكانيّة تأسيس عالم ثانٍ بجوار العالم الحقيقيّ كما قال زيمل. يُقرّ إميل حبيبي بمحدوديّة القوة في فلسطين/إسرائيل في سنوات السبعين، ويقترح إمكانيّة عالم فلسطينيّ خبيء وسرّيّ يُمكّن البقاء والاستمراريّة في ظلّ القمع. نحن نرى إذًا أنّ سرّ حبيبي يضرب حدًّا، وأنّ مُركّبات وعناصر الهُويّة والقوّة الكامنة في السرّ تزيد من وضوح فرض الحدود عبر جانبيْه: الهُويّة تُرسّم الحدود الداخليّة (للخاصّ وللعائليّ وللجَمعيّ) فيما تحرس القوّة حدودَه الخارجيّة. بهذه الطريقة يُمكننا في واقع الأمر أن نفهم اختيار الاسم “سعيد” لبطل الرواية التي تحمل عنوان المتشائل؛ فبوسع سعيد حارس السرّ أن يكون متفائلًا.

*

هدفت هذه المقالة للتفكير في مصطلح “سرّ” وفي إسقاطاته وتبعاته السياسيّة. ومن الممكن تعريف السرّ والسرّيّة والعلاقة بينهما على هذا الشّكل: السرّيّة تتعلّق بحماية قيمة – التي يمكن أن تكون ماديّة أو مجرّدة – أو بالاحتماء منها. ولهذا بوسع السرّيّة أن تحمي كنزًا حقيقيًّا، أو فكرةً، أو معلومةً، أو براءة اختراع، أو هُويّة. السرّيّة تُوحّد وتُفرق، وهي التي تقرّر هُوية مَن بالإمكان كشف السرّ أمامه، أو كتمانه عنه. من هذا المنطلق نرى أنّ السرّيّة مركزيّة لتشكُّل الهُويّة (الفرديّة والعائليّة والجَمعيّة)، خصوصًا إذا ما كانت قائمة في سياق ملاحقة و/أو رقابة، وقد تكون أحيانًا ضروريّة لفعل البقاء.[69] هذا إلى جانب أنّ السرّيّة، أي السّيطرة على القيمة (السرّ)، تمنح قوّة تضاديّة (من الكشف والكتمان، من الظاهريّ والباطنيّ)، لكنّها قد تكون عبئًا نفسانيًّا. ونقول ختامًا إنّ السرّ بحد ذاته يمكن أن يكون أخلاقيًّا أو غير أخلاقيّ، بناءً على سياق استخدامه.

* منار مخّول، قسم الدراسات العربيّة والإسلاميّة، جامعة تل أبيب.

  1. أود أن أعرب عن خالص شكري وامتناني للعزيز علاء حليحل على المبادرة وترجمة المقالة من العبرية إلى العربية.
  2. ابن منظور،”سرّ”، في لسان العرب (القاهرة: دار المعارف، 1986)، 1989–1992.
  3. Jacques Derrida, The Politics of Friendship, trans. George Collins (London; New York: Verso, 2006), loc 706.
  4. Leonidas Donskis, “Secrets, Mysteries, and Art,” Homo Oeconomicus 26 (1) (2009): 99 (להלן Donskis, “Secrets, Mysteries, and Art”).
  5. Michael L. Slepian, “A Process Model of Having and Keeping Secrets,” Psychological Review 129, no. 3 (להלן Slepian, “A Process Model).
  6. أنجليكا نويورت، “رواية المتشائل تأليف إميل حبيبي كمحاولة لنزع الأسطورة عن التاريخ، همزراح هحداش، 35 (1993): 90 (فيما يلي: نويروت، “رواية المتشائل”). (بالعبريّة).
  7. الخازوق هو طريقة تعذيب عثمانيّة قاسية للغاية، كانوا يجلسون فيها الشخص على خازوق كبير بحيث أنّ وزن الشخص يؤدّي إلى اختراق الخازوق لجسده. وكان ضحايا هذه الطريقة يموتون موتًا بطيئًا وموجعًا.
  8. نصوص نثريّة (قصص قصيرة على الأغلب) مسجوعة كانت شائعة في العصور الوسطى، لكنّها حظيت باهتمام مُجدّد في العصر الحديث.
  9. نويروت، “رواية المتشائل”، 91.
  10. إميل حبيبي، الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل (بيروت: دار ابن خلدون, 1974 (1989)), 113–115 (فيما يلي: حبيبي، الوقائع الغريبة).
  11. Clare Birchall, “Managing Secrecy,” International Journal of Communication 10 (2016): 153; Sissela Bok, Secrets: On the Ethics of Concealment and Revelation (New York: Oxford University Press, 1984), 6 (فيما يلي Bok, Secrets).
  12. Anne Dufourmantelle, In Defense of Secrets, trans. Lindsay Turner (New York: Fordham University Press, 2021), 3 (فيما يلي Dufourmantelle, In Defense of Secrets).
  13. Derrida, The Politics of Friendship.
  14. Dufourmantelle, In Defense of Secrets, 4.
  15. المصدر السّابق، 81.
  16. Manar H. Makhoul, “Dispossession and Discontinuity: The Impact of the 1967 War on Palestinian Thought,” Critical Inquiry 48 (3) (2022).
  17. المصدر السّابق.
  18. Dufourmantelle, In Defense of Secrets, 61.
  19. Georg Simmel, “The Sociology of Secrecy and of Secret Societies,” American Journal of Sociology 11, no. 4 (1906): 462.
  20. Lital Levy, “Nation, Village, Cave: A Spatial Reading of 1948 in Three Novels of Anton Shammas, Emile Habiby, and Elias Khoury,” Jewish Social Studies 18 (3) (2012).
  21. Uri S. Cohen and Manar H. Makhoul, “Political Animals in Israel-Palestine,” in Dibur: Literary Journal 12–13: Comparing the Literatures: Contemporary Perspectives (2022).
  22. Dufourmantelle, In Defense of Secrets, 15.
  23. Carol Smart, “Families, Secrets and Memories,” Sociology 45 (4) (2011): 540.
  24. Rula Jurdi Abisaab, “The Pessoptimist: Breaching the State’s Da’wâ in a Fated Narrative of Secrets,” Edebiyat: Journal of M.E. Literatures, 13 (1) (2002): 6 (فيما يلي Abisaab, “The Pessoptimist”).
  25. Kyle Wanberg, “Secrecy, Lies, and the Exilic Imagination in the Pessoptimist,” Middle Eastern Literatures 18, (2) (2015): 185 (فيما يلي Wanberg, “Secrecy”).
  26. Michael L. Slepian, The Secret Life of Secrets: How Our Inner Worlds Shape Well-Being, Relationships, and Who We Are (New York: Crown, 2022), 31 PDF.
  27. Birchall, “Managing Secrecy,” 153, التشديد من عندنا .
  28. Ross Chambers, “Histoire D’oeuf: Secrets and Secrecy in a La Fontaine Fable,” SubStance 10 (3) (1981): 67.
  29. Donskis, “Secrets, Mysteries, and Art,” 98.
  30. Simmel, “The Sociology of Secrecy,” 464.
  31. تُذكّر نهاية الرواية هذه مرّة أخرى لنهاية “عائد إلى حيفا” من تأليف غسّان كنفاني، التي يرمز فيها الابن الثاني إلى تغيّر في النهج وينضم إلى حركة المقاومة الفلسطينيّة.
  32. Susanne Krasmann, “Secrecy and the Force of Truth: Countering Post-Truth Regimes,” Cultural Studies 33 (4) (2019): 690.
  33. Slepian, The Secret Life of Secrets; Bok, Secrets, 5.
  34. Wanberg, “Secrecy,” 198.
  35. حبيبي، الوقائع الغريبة، 139–140.
  36. Mareile Kaufmann, “This Is a Secret: Learning from Children’s Engagement with Surveillance and Secrecy,” Cultural Studies Critical Methodologies 21 (5) (2021): 425 (فيما يلي Kaufmann, “This Is a Secret”).
  37. Victor Tausk and Dorian Feigenbaum, “On the Origin of the ‘Influencing Machine’ in Schizophrenia,” The Journal of Psychotherapy Practice and Research 1 (2) (1992): 194.
  38. حبيبي، الوقائع الغريبة، 67.
  39. Kaufmann, “This Is a Secret,” 426.
  40. حبيبي، الوقائع الغريبة، 80–81.
  41. Wanberg, “Secrecy,” 192–193.
  42. المصدر السّابق، 196.
  43. المصدر السّابق، 197.
  44. Carol Warren and Barbara Laslett, “Privacy and Secrecy: A Conceptual Comparison,” Journal of Social Issues 33 (3) (1977): 45.
  45. Slepian, “The Secret Life of Secrets,” (www.keepingsecrets.org).
  46. المصدر السّابق.
  47. المصدر السّابق، 70.
  48. المصدر السابق؛ Slepian, “A Process Model,” 545.
  49. Bernhard Ganglmair and Emanuele Tarantino, “Conversation with Secrets,” The RAND Journal of Economics 45 (2) (2014): 273.
  50. Abisaab, “The Pessoptimist,” 1.
  51. المصدر السابق، 4.
  52. Wanberg, “Secrecy,” 194.
  53. Nicolas Abraham and Maria Torok, The Shell and the Kernel: Renewals of Psychoanalysis (Chicago: University of Chicago Press, 1994), 159.
  54. Dufourmantelle, In Defense of Secrets, 7.
  55. Wanberg, “Secrecy,” 192–93.
  56. حبيبي، الوقائع الغريبة، 59.
  57. Kaufmann, “This Is a Secret,” 433.
  58. المصدر السّابق، 424.
  59. المصدر السّابق، 434.
  60. Abisaab, “The Pessoptimist,” 8.
  61. Peter Heath, “Creativity in the Novels of Emile Habiby, with Special Reference to Sa’id the Pessoptimist,” in Tradition, Modernity, and Postmodernity in Arabic Literature: Essays in Honor of Professor Issa J. Boullata, ed. Kamal Abdel-Malek and Wael B Hallaq (Leiden; Boston: Brill, 2000), 167.
  62. Wanberg, “Secrecy,” 189.
  63. Manar H. Makhoul, Palestinian Citizens in Israel: A History through Fiction, 1948–2010 (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2020) (فيما يلي Makhoul, Palestinian Citizens in Israel).
  64. نبيه القاسم، دراسات في القصة المحليّة (عكا: دار الأسوار، 1979)، 27.
  65. المصدر السابق، الترجمة من عندنا.
  66. حبيبي، الوقائع الغريبة، 31.
  67. Makhoul, Palestinian Citizens in Israel.
  68. Nadim N. Rouhana, “The Intifada and the Palestinians of Israel: Resurrecting the Green Line,” Journal of Palestine Studies 19 (3) (1990): 59.
  69. Wanberg, “Secrecy”.