غَرْب

إياد معلوف
Download PDF

للغرب، في المَعاجم، قواسمُ مشتركةٌ في معانيها الأوائل، تجتمع فيما بينها وتستعير من بعضها البعض. فإلى جانب مفهوم الغرب بوصفه جهةً تُقابلُ الشرقَ مفهومًا جغرافيًّا، فإنّ للغرب معانيَ تتجاوز ذلك. على سبيل المثال، جاء في كتاب العيْن للخليل بن أحمد الفراهيديّ في القرن الثامن الميلاديّ أنّ الغربَ هو “التمادي” و”اللجاجة”، و”الحدّ”. ومنه “الغُروبُ وهو الدّمع”.[1] وجاء في لسانِ العربِ لصاحبه ابن منظور أنّ الغربَ هو “النَّوى والبُعد”، ومنه “الغُربُ” و”الغُربَة” بمعنى “النّزوح عن الوطن”؛ والغَربُ هو “حدّ كلّ شيءٍ” ومنه “حدّ السيف”؛ وهو “مَسيلُ الدّمعِ” للعيْنِ التي “لا تنقطعُ دموعُها”.[2] والغربُ في القاموس المحيط للفيروزآبادى هو “أوّلُ الشيءِ وحدُّه” وهو انهلالُ الدّمعِ من العيْن.[3] تنطلق كلّ هذه المعاني المعجميّة المشتركة فيما بينها، من جذرٍ لغويّ واحد، وتتفرّع منه إلى معانٍ أخرى توسّع معنى المصطلح “غرب” وتزيد عليه. بكلماتٍ أخرى، إنّ مصطلح “غرب”، كغيره من المصطلحات، يتغيّر معناه ويتطوّر على نحوٍ يُشير إلى تفاعل اللغة مع محيطها ومناخها الاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ.

يدّعي هذا المقال، أنّ المعاني المعجميّة الأوّليّة، المختلفة-المتّصلة في تنوّعها، تحمل في طيّاتها فكرةً سياسيّةً صاحبَت تطوّر الغرب كمفهومٍ سياسيٍّ يتفاعل مع محيطٍ دائمِ التغيّر في جبهاتٍ مختلفة. من هنا، يهدف المقال إلى فهمِ وتعريف المصطلح “غرب” بوصفه مفهومًا تاريخيًّا-سياسيًّا عبر سرديّةٍ تاريخيّةٍ تبدأ في القرن الثامن الميلاديّ مع نشوء الدولة الأمويّة ككيانٍ سياسيٍّ في الشّرق، وتتطوّر عبر محطّاتٍ تاريخيّة تشهدُ تفاعلًا متواصلًا بين قوًى سياسيّة ودينيّة مختلفة. تشمل تلك المحطّاتُ تأسيسَ الغرب الإسلاميّ في الأندلس ثمّ سقوطه، وأثر الحملات الصليبيّة على الشرق والغرب، وسقوط القسطنطينيّة مرّتيْن في تاريخها، واكتشاف العالم الجديد، وطرد الموريسكيّين من إسبانيا وصولًا إلى خلق غربٍ عقلانيٍّ بدايةَ العصر الحديث. أدّعي هنا، أنّ تلك المحطّات، شَهِدَت تغيّرًا ملموسًا في فهم المصطلح “غرب” ومعناه في إطار تطوّر العلاقة بين الفِكريْن الإسلاميّ والمسيحيّ وربطهما عمومًا بتصوّر علاقةٍ سياسيّة-دينيّة بين الشرق والغرب، وتركَتْ أثرًا سياسيًّا عميقًا لا يزال جزءًا راسخًا من تعريف الغرب حتّى اليوم. إذًا، يحاول المقال الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما معنى “غرب”، سياسيًّا؟ كيف نشأ وتطوّر ليصل إلينا اليومَ مفهومًا سياسيًّا معاصرًا؟ وكيفَ تغيّر تعريفه السياسيّ عبر التاريخ؟

الغربُ الإسلاميّ

في عام 747 للميلاد، انطلقت الجيوش المناصرة للدّعوة العباسيّة ضدّ الأمويّين من خُراسان في المشرق واجتاحت بلاد الرّافديْن والشّامَ ومِصرَ وما يُعرَف اليومَ بشمال أفريقيا، مُنهيةً بذلك زُهاء قرنٍ من حُكم الأمويّين لكلّ تلك المناطق، ومؤسِّسةً بعدها بثلاث سنواتٍ فقط خِلافةً عبّاسيّةً دامَت نحو خمسمئة عام. تفشّى ذبحُ الأمويّين في ظلّ الخلافة الجديدة، إذ نكَبَهم العبّاسيّون وبطشوا بهم حتّى لم يعد أحدٌ منهم يأمَن على نفسه، فتخفّى منهم مَن تخفّى وقُتِلَ مَن قُتِل وفَرَّ مَن فرّ.[4] وكان من جُملة الفارّين من المذبحة، الأميرُ الأمويُّ عبد الرحمن بن معاوية، الذي طاردته سيوف بني العبّاس من دمشق في الشّام حتّى القيروان في تونُس وصولًا إلى شواطئ المغرب، التي التجأ منها إلى الأندلس. قاتَلَ عبدُ الرحمن ولاةَ الأندلس، وأخضع ثورات مَن قامَ ضدّه، إلى أن “استقامَ له الأمرُ بعد أن بذلَ السيفَ في مخالفته”،[5] ليؤسّسَ بذلك سُلالةً حاكمةً جديدةً؛ أعادَ من خلالها إحياء مُلك الأمويّين في الغرب لنحو ثلاثمئة عام.[6] لعلّ عبد الرحمن – الذي لُقِّبَ بالدّاخل – لم يدرك في فراره ذاك، أنّ نجاته من المذبحة لن تُعيد إليه مُلك آبائه فقط، لكنّها ستخلقُ حيّزًا سياسيًّا جديدًا سيُعيد تعريف الغرب سياسيًّا وثقافيًّا عند المسلمين، مقابل الشرق الذي فرّ منه. أي، سيتحوّل الغربُ إلى كيانٍ سياسيٍّ إسلاميٍّ مستقلٍّ يتفاعل مع محيطه وخصومه ومريديه على نحوٍ يُسهم في تطوّر معناه.

لم تكن البلاد الخاضعة لسُلطة الأوروبيّين، من غير المسلمين، خارج الإطار المعرفيّ لدى مسلمي القرون الوسطى، على أنّها لم تكن مشمولةً في مُفردة “غَرْب” التي ضمّت في وقتها الأندلسَ والمغرب.[7] كان المسلمون يَعونَ التنوّع الأوروبيّ خارج حدود دار الإسلام فيُشيرون إلى كلّ أمّةٍ أوروبيّة باسمها؛ وإن جمعتهم مُفردة “نصارى”. فقد استعمل المسلمون أسماءً، كالتي قدّمها أبو الحسن المسعوديّ في القرن العاشر، للإشارة إلى الأمم غير المسلمة، وميّزوا بينها في معرفتهم لها أو عبّروا حتّى عن مواقفهم منها مثل “الإفرنج” و”الروم” و”الوشكنس” و”الصقالبة” و”الجلالقة” و”اليونانيّين” و”الأشْبَان” وغيرهم.[8] كانت الأندلس وما يليها من بلاد المغرب، في وسط هذا الخليط كلّه، هي الغربُ الوحيد الذي يعرفه العربُ اصطلاحًا سياسيًّا في ذلك الزمان.[9] وهو الغربُ الذي فرّ إليه الدّاخلُ ليُنشئ فيه كيانًا سياسيًّا جديدًا، ما يلبث أن يستقلّ عن الشرق ليتحوّل في وقتٍ لاحقٍ إلى موطئِ قدمٍ لبعض الأمم الأوروبيّة المذكورة هنا، تصنعُ على أنقاضه غربًا سياسيًّا غيرَ إسلاميٍّ مستقلًّا عن أيّ ثقافةٍ إسلاميّة في تاريخ أوروبا السياسيّ.

نظرًا للخصومة التي زادَت حدّتها بين بني العبّاس وبني أميّة بعد المذبحة، كان الغرب الأمويّ السياسيّ هذا، يرى نفسه مستقلًّا عن الشرق، وإنْ كان يحنّ إليه بوصفه وطنه الأوّل. فكانت مفردة “غرب” تظهر في الأدب كمصطلحٍ يُحيل إلى الغربِ ككيانٍ سياسيٍّ وجغرافيّ مستقلّ، من جهة، ويرى في الشرقِ، من جهةٍ أخرى، منشأه الأوّل وأصلَه الذي يتوقُ إليه. كان الدّاخلُ الذي نجح أخيرًا في تثبيت مُلكه بعد سنوات طويلةٍ من الفرار والقتال، يحنّ إلى وطنه في الشرق الذي لن يرجع إليه أبدًا. وكان من جُملةِ الأشياء التي استجلبها من الشرق إلى الأندلس، نخلة يرى فيها مثيله في غُربته وابتعاده عَمَّن خلَّف وراءَه من أهله وولَده. فكان إذا اشتدّ حنينه وغلبَ عليه، لجأ إليها يخاطبُها شِعرًا، ويذكر في ذلك قصر جدّه هشامَ بن عبد الملك في رُصافة الشّامِ، فيجمع في مفردة “غَرْب” معنَيَيْن اثنيْن؛ جغرافيّ ووجدانيّ عاطفيّ:

تَبدَّت لنا وَسْطَ الرُّصافةِ نَخلةٌ تَناءَت بأرضِ الغَرْبِ عن بَلَدِ النّخلِ

فقُلتُ شَبيهي في التّغرّبِ والنّوَى وطولِ التّنَائِي عن بَنيَّ وعَن أهلي

نَشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ فمِثلُكِ في الإقصاءِ والمُنتأى مثلي[10]

تجتمع في أبيات الدّاخل معاني الغرب المتداخلة. فالغربُ هو بلاد الأندلسِ التي يحكمها ويرى فيها صورةَ شَرقِه الغابرِ؛ في نخلةٍ جمعه بها الأصلُ والوحدة في أرضٍ غريبة. وفي الغرب معنى التغرّبِ والغُربة اللذيْن يحملان معاني الإقصاء والنأي والنزوح عن الوطن. تختصرُ قصيدة الدّاخل القصيرة هذه، وبشكل جامعٍ، تعريفَ الغربِ، من جهةٍ، وتُبيّن العلاقة الوجدانيّة مع الشّرقِ، من جهةٍ أخرى. على أنّ هذه العلاقة الوجدانيّة، لن تتمكّن من النأي بنفسها عن الواقع السياسيّ الذي سيدفع بالغربِ إلى تطوير علاقةٍ جديدةٍ مع الشرق، حتّى قبل أن يبدأ بالتحوّل إلى غربٍ جديدٍ غير إسلاميٍّ في قابل الأيام.

نتجَ عن استحواذ الدّاخلِ على مُلك الأندلس إبّان الخلافة العباسيّة وضعٌ سياسيٌّ جديدٌ وغير تقليديّ. فمن جهةٍ، أصبح جزءٌ من الغرب الإسلاميّ خارج سُلطة الخليفة العباسيّ في الشرق، ومن جهةٍ أخرى، لم يتّسم الدّاخلُ بالخلافة، بل اتّخذ لنفسه لقبَ الأمير،[11] ورأى في مملكته الجديدة كيانًا سياسيًّا مستقلًّا عن الشّرقِ تمامًا بمُلكٍ واضحٍ، ومنبرٍ مستقلٍّ (“مِنبرًا للخِطابِ فصْلًا”)، وجُندٍ، ونظامٍ، صنعَها كلّها بنفسه بعد خوفٍ ومِحنة.[12] لكنّه أمرَ بقطع الدعاء للخليفة العباسيّ من منابر الأندلس قاطبةً.[13] كان هذا كلّه كفيلًا لترسيخ قطيعةٍ سياسيّةٍ كاملةٍ بين جزءٍ كبيرٍ من الغرب وما يقابله في الشرق، وستستمرّ هذه القطيعة لتشمل أجزاءَ كبيرةً من المغرب في وقتٍ لاحق، مع تعقّد الوضع السياسيّ ودخول لاعبين آخرين إلى الميدان السياسيّ.

على أنّ العلاقة الثقافيّة بين الشرق والغرب الإسلاميَّيْن لم تنقطع أبدًا على مدار عقودٍ طويلة، فكان العُلماء والأدباء وأهلُ الموسيقى يشدّون الرحالَ من بغداد في الشرق إلى قرطبة في الغرب، ومن الثانية إلى الأولى،[14] ونتجَ عن ذلك تنوّع ثقافيّ ونشوء مدارس فقهية وفلسفية ونحويّة قلّ نظيرها في ثقافاتِ ذلك الزمان. كانت بغدادُ في الشرقِ مَوْئلًا مَرموقًا للعِلم، وكانت قرطبة في الأندلس تستفيد من عِلم بغداد وتزيدُ عليه، حتّى أصبحت في القرن العاشر تنافسُ بغدادَ نفسها، وتُنتجُ عِلمها بنفسها.[15] أضافَ هذا الإنتاج المعرفيّ في الغرب، وتعدّد المدارسِ فيه، عِلمًا أندلسيًّا بهويّةٍ إسلاميّةٍ غربيّةٍ. لعلّ أبرز الأمثلة على ذلك يتجلّى في تبنّي الغرب الإسلاميّ، عمومًا، مذهبًا مالكيًّا غربيًّا لاقى رواجًا في الأندلس والمغرب؛ في حين فضّل العبّاسيّون في المشرق تبنّي المذهب الحنفيّ.[16] أصبحت مَعالِمُ الهويّة الإسلاميّة الغربيّة تتّضح أكثر في سياق تزامن هذا النضوج المعرفيّ [17]مع نضوجٍ آخرَ سياسيّ.

في هذه المرحلة، أي في القرن العاشر، أصبحَ الغربُ الإسلاميُّ السياسيُّ أكثر بروزًا، بل إنّ تعريفه أصبح أكثر وضوحًا مع دخول القطيعة السياسيّة بين قرطبة وبغداد مرحلةً غير مسبوقة. كانت الخلافة الإسلاميّة في القرن العاشر منقسمةً بين خلافةٍ سنيّة عبّاسيّة في بغداد وبلاد الشام، وأخرى شيعيّة فاطميّةٍ في مصر وشمال أفريقيا. وكانت الأندلس على وشك أن تزيد عليهما بخلافةٍ ثالثة. إذ قرّر عبد الرحمن الثالث الملقَّب بالنّاصر، وهو حفيدُ الدّاخل وأميرُ الأندلس، بأنّ الوقت قد حان ليتَّسِمَ هو نفسه بالخلافة، أيضًا، خصوصًا بعد ضعف الخلافة العبّاسيّة في الشرق، فأرسلَ كُتُبَهُ إلى وُلاته وعمّاله في أنحاء الأندلس، يقول: “وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأميرِ المؤمنين، وخروجِ الكتب عنا وورودها علينا بذلك، إذ كلّ مدعوٍّ بهذا الاسم غيرنا منتحِلٌ له، ودخيلٌ فيه، ومُتسم بما لا يستحقّه”.[18] إنّ الاتّسامَ بالخلافة في الغرب يُربكُ العلاقة بين الغرب والشرق الإسلاميَّيْن. ليس الغربُ الآن مجرّد إمارةٍ مستقلّةٍ تتجاهل سُلطة الخليفة العبّاسيّ في الشرق، وتسخرُ من الخليفة الفاطميّ في مصر. إنّ إعلانَ الخلافة في الأندلس يعني انقسام العالم السنيّ إلى خلافتيْن سنيّتيْن، من جهة، ونزع شرعيّة السُّلطة العبّاسيّة السُّنيّة في الشرق في نظر الغرب، من جهةٍ أخرى.

على أنّ خلافة الغرب، في جوهرها، كانت مختلفةً عن خِلافة الشرق. فإنّ خلافة الشّرقِ استمدّت شرعيّتها من انتماء خلفائها أو أئمّتها إلى آل البيت، وكان وجود مكّةَ والمدينة وبيت المقدس ضمن سُلطان العبّاسيّين يُسهمُ في تعزيز صورةِ هذه الشرعيّة. كان الخليفة إمامًا شرعيًّا للمسلمين بموجبِ بيعةٍ ذات طابعٍ دينيٍّ واضح. هذا الأمر بالذات، يطرح إشكاليّة بشأن خِلافة النّاصر في الغرب. إذْ أنّ الناصر لم يكن لديه نسَب مباشرٌ لآل البيت – بل إنّ الأمويّين أيّام سُلطانهم في الشرقِ، أقاموا على خلافِ آل بيت وعداوتهم[19]– وليس في نطاق سُلطانه مكّةٌ أو مدينةٌ منوّرةٌ ولا بيتُ مقدسٍ يوظّفها في تعزيز شرعيّة خلافته. كان النّاصرُ أقربَ إلى المَلِك منه إلى الخليفة بمعناه الشرعيّ. فإنّ ما أوصلَ جدّه الأكبر، عبدَ الرحمن الداخل، إلى المُلك، لم يكن دعوةً سياسيّةً ذات طابع دينيّ كالتي كانت لدى العبّاسيّين أوّل أمرهم، ولا ادّعاءً بالنّسَب إلى آل البيت. إنّما مَلكَ الداخلُ الأندلسَ بدعوى استرداد إرثِ آبائه وما رآه، بالتالي، حقًّا له. كما أنّ النّاصر لم يُوسَم بالخلافة حتّى قهر خصومه وأخمدَ الثورات ضدّه ووطّدَ أركان الدولة، فكانت الخِلافةُ جائزته التي عمل لنيلها بجُهده.[20]

ابتداءً من هذه المرحلة، بدأ الغربُ الإسلاميّ ينظرُ إلى الشرق الإسلاميِّ بتفكّكه وضعفهِ ويحلم في أخذه وإخضاعه إلى سُلطته. تظهر هذه النظرة الاستعلائيّة في بعض أدبيّات تلك الفترة. فنجدُ، مثلًا، الشّعر المتداول في مجالس الخليفة الحَكَم وَلد النّاصر، الذي تلقّب بالمُسْتَنْصِر، يجعلُ الخلافة في الغرب فقط دون الشرق، ويُزري بالخلافتيْن العباسيّة والفاطميّة ومَن والاهُما، بل ويرى فيهما مراتعَ للضلال والكُفر. جاء في قصيدة ألقاها عبد العزيز بن حسيْن القُرويّ احتفالًا بانتصار أمير المؤمنين على أعدائه من الأدارسة المغربيّين الموالين للخليفة الفاطميّ:

لقد طلَعَت بالغَرْبِ شمسُ خِلافةٍ أضاءَ لها في المَشرقيْن شروقُ

فَتِلكَ الشآمُ استشرفَت لوُرودِها وكانت لها قِدْمًا عليْهِ حقوقُ

ليَجلو عنها ظُلمة الكُفرِ بالهُدى إمامٌ على الدين الحنيفِ شَفيقُ

أطلّت على أهلِ العِراقِ ومَن بها مَذاهبُ فيهنَّ الضلالُ عَريقُ

وكم بِبلاد القيروانِ سَفاهةٌ تَهبُّ بها ريحٌ هُناكَ خريقُ[21]

إنّ طلوعَ شمسِ الخلافة في الغرب يعني بالضرورةِ غيابها في الشرق؛ أو، هكذا جاء في شِعر القرويّ كنوعٍ من دعاية سياسيّةٍ تُبيّن الشِّقاق والخلافَ بين كيانيْن سياسيّيْن منفصليْن. أصبحَ الشرقُ الإسلاميُّ، في هذه الدعاية السياسيّة، أقلَّ قيمةً من الغرب. بل إنّ الغربَ يظهر الآنَ في صورةِ القويّ حافظِ الدينِ القويمِ من الضلال الذي ألمّ بالشرقِ، فبدأ هذا الغربُ يعبّر عن رغبته في فرض سُلطته ووصايته على الشّرق ليقوّمه ويردّه – بدعوى الحقّ والتاريخ والدين – إلى البيت الأمويّ. من هنا، صار الغربُ الإسلاميُّ يروّج إلى نوعٍ من الوصاية السياسيّة على الشرق الإسلاميّ. وكأنّ هذا الشرقَ الذي أخرجَ الأمويّين من قبل، باتَ مَدينًا لهم الآنَ وقد طلعت شمسُ خلافته في الغرب. لم يكن ذلك غريبًا باعتبار أنّ الحكمَ المُستنصر، حَفيدَ الدّاخلِ وولدَ النّاصر، كان قد ورث مملكةً قويّةً أخافت أعداءَه وسكنَت بها قلوبُ أنصاره.[22] على أنّ الحكَمَ المستنصرَ سيكون آخر خُلفاء بني أميّة الأقوياء في الأندلس. ولن يمرّ وقتٌ طويلٌ حتّى يوافيه الأجل، ليستلم ولدُه هشامُ المؤيّدُ بالله السُّلطة وهو بعد صبيّ. لن يحكم هشامُ فعليًّا، بعد استيلاء حاجبه وصاحب دولته المنصورُ بن أبي عامر على السُّلطة وتعطيل ناموس الخلافة في الغرب على الجُملة، حتّى إذا استوفى المنصورُ أجلَه، انهار البيتُ الأمويُّ من بعده، وغابَت مع انهياره شمسُ الخلافةِ الأمويّة عن الغرب.

سقوط الغربِ الإسلاميّ وبداية تشكّل غربٍ دينيٍّ-سياسيٍّ جديد

كان لانهيار الخلافة الغربيّة تَبِعاتٌ سياسيّةٌ وجوهريّة في إعادة تعريف الغرب عمومًا، لا من حيث مكانته ككيانٍ إسلاميٍّ مستقلٍّ مقابل الشرق فقط، ولكن من حيث صناعته وإعادة إنتاجِهِ خارجَ إطار الإسلام. أدّى انهيار الخلافة في قرطبة إلى تفكّك الغرب الإسلاميّ إلى دويلاتٍ إسلاميّةٍ متناحرة فيما عُرف بعصر ملوك الطوائف (1031-1091). كان القرن الحادي عشر مفصليًّا في بدء تشكّل غربٍ جديدٍ غير إسلاميّ. إذ مهّد التفكّك الإسلاميُّ في الأندلس الفرصةَ إلى نهوض الممالك المسيحيّة الكاثوليكيّة في شمال شبه الجزيرة الإيبيريّة، لاستئناف ما عُرِفَ بحرب الاسترداد ضدّ مسلمي الأندلس. كان البابا الكاثوليكيّ منخرطًا في تنظيم الحملات المسيحيّة ضدّ الممالك الإسلاميّة في الغرب؛ على نحوٍ جعل الملك القشتاليّ، ألفونسو السّادس، ينجح في انتزاع مدينة-دويْلة طليطلة من المسلمين عام 1085.[23] أدّى سقوط طليطلة إلى شحنِ الروحِ المسيحيّة، خصوصًا بعد فشل المسلمين في استرداد المدينة، وإنْ كانوا قد بدأوا يشكّلون خطرًا على الجسد المسيحيّ من جهة المغرب في جيشٍ من المرابطين.[24] لم تمضِ سوى عشر سنواتٍ على سقوط طليطلة، حتّى أعلن البابا أوربان الثاني، عام 1095، في خطبة دينيّةٍ ناريّة في مَجمَع كليرمونت بفرنسا انطلاق الحملات الصليبيّة شرقًا وغربًا ضدّ المسلمين، بعد أن كان قد عمل على شحن العواطف المسيحيّة خلال السنوات السابقة لهذا السبب، مستغلًّا أثرَ سقوط طليطلة على الروح المعنويّة المسيحيّة عمومًا، ثمّ ما لبث أن بدأ بتجييش فرسانٍ غربيّين من مختلف البلاد الأوروبيّة لهذه الغاية. لبّى النداءَ ألمانٌ ونورمانديّون وفرنسيّون وإيطاليّون وغيرهم.[25] إنّ اجتماع كلّ هذه الأمم الأوروبيّة تحت رايةٍ واحدة، ساهمَ في تعزيزِ نشوءِ هويّة مسيحيّةٍ غربيّة كاثوليكيّة جامعة يرأسها البابا، تهدف إلى استرداد الأندلس. لكنّها في الأساس، وعلى نحوٍ مباشر، كانت مُوجّهة نحو تحرير الشرق كلّه وفلسطين، خصوصًا، من المسلمين، وإنقاذ مسيحيّي الشّرق، وتأمين طُرق الحُجّاج المسيحيّين (الكاثوليك) إلى الأراضي المقدّسة.[26] وكأنّ حُجّة البابا تقول: إن كانت طليطلة قد استُرجِعَت ببركة الرّبّ، فالأوْلى منها استرجاع بيت المقدس وكنيسة القيامة من المسلمين.

لم ينجح الغربُ الإسلاميّ، إذًا، في فرض سُلطته على الشرق، لكنّ الغربَ الكاثوليكيّ الجامعَ هذا سيفعل ذلك عوضًا عنه، وسيبدأ بصياغة علاقة جديدةٍ مع الشرق، لا مقابل المسلمين فقط، بل مقابل مسيحيّي الشرق أيضًا. كان الصليبيّون الأوائل القادمون من هذا الغرب الجامعِ يروْن أنفسهم حُجّاجًا ومحرّرين، يقاتلون باسم المسيح وملبّين نداء الكنيسة، لكنّهم لم يكونوا كذلك بالضرورة في نظر اليونانيّين البيزنطيّين الأرثوذكسيّين في الشرق. لم تكن العلاقة بين الشرق البيزنطيّ المسيحيّ ومحاربي الغرب القادمين إليهم على أحسن حال، نظرًا للحساسيّة بين الكنيسة الشرقيّة والكنيسة الغربيّة، في أعقاب الانشقاق العظيم عام 1054، والذي لم يلتئم حتّى يومنا هذا.[27] إذْ كان الإمبراطور البيزنطيّ يرى في الشرق، الذي يحلم الغربيّون في أخذه، إرثًا مسيحيًّا شرقيًّا، حتّى أنّه اشترط عليهم، عندما قدِموا إليه في طريقهم إلى فلسطين، استرجاع المناطق الشرقيّة -التي يحتلّها المسلمون- إلى سُلطة البيزنطيّين. لكنّ محاربي الغرب هؤلاء لم يعتادوا الخضوع لأوامر صادرة من الشرق[28]. إذ لم ينظر البيزنطيّون الشرقيّون إلى الصليبيّين الغربيّين كحجّاج جاؤوا ليرفعوا اسم الربّ. بل اعتبروهم قادَةً عاديّين يحلمون بالاستحواذ على الشرق، بل على القسطنطينيّة ذاتها.[29]

ربّما كانت مخاوف الشرق المسيحيّ مبرّرةً، خصوصًا بعد الخصومات الشديدة التي نشأت بين الغرب والشرق المسيحيَّيْن، التي أفضت عام 1204، إبّان الحملة الصليبيّة الرّابعة، إلى اقتحام الصليبيّين الغربيّين القسطنطينيّة ذاتَها واستباحتَها وتدمير ما فيها، ثمّ الجلوس على عرشها لسبعةٍ وخمسينَ عامًا. حتّى أنّ البابا في حينه، أنوسنت الثالث، كان قد احتفى بسقوط العرش البيزنطيّ مدّعيًا أنّ الربّ قد أجرى أعجوبةً على أيدي محاربي الغرب هؤلاء في استباحة القسطنطينيّة، وحقّق بهم نصرًا للإيمان الكاثوليكيّ.[30] بل إنّ الاحتفالات عمّت أوروبا بغربِها في فرنسا وبلجيكا، مثلًا، وتعالت الهتافات الفَرِحة بسقوط الإمبراطوريّة الشرقيّة.[31] إذا كان هناك أيّ أملٍ في وحدة مسيحيّة بين الكنيسة الشرقيّة والكنيسة الغربيّة، فكان اجتياح الصليبيّين للقسطنطينيّة كفيلًا في القضاء عليه. سيصبح الغرب أكثر بُعدًا عن الشرق. كان العداء في القرن الثالث عشر على أشدّه بين الكنيستيْن، وكان قد برزَ عددٌ كبيرٌ من الكتّاب من أمثال روجر بيكون وجاك دي فيتري؛ الذين وضعوا الكنيسة الشرقيّة الأرثوذوكسيّة في خانة واحدةٍ مع “المسلمين والوثنيّين والهراطقة، وغيرهم من أعداء العالم المسيحيّ”.[32]

لم يكن سقوط القسطنطينيّة بيد الإفرنج مجرّد نصرٍ عسكريٍّ للغرب، بل كان بمثابة ترسيخٍ للتَوْأمة السياسيّة-الدينيّة بين الغرب، ككيانٍ سياسيٍّ، والعقيدة الكاثوليكيّة السياسيّة، كمذهبٍ غربيٍّ هويّاتيّ واضح. بكلماتٍ أخرى، فالكيانُ السياسيُّ يستعينُ بالعقيدة لتعزيز سُلطته بين الناس؛ والجانب الدينيّ المؤسّساتيّ يستعين بالسُّلطة السياسيّة لفرض هيمنته وتوسيعها بأدوات السُّلطة، كالجيش والحرس وما شاكل ذلك من مظاهر السُّلطة وحضورها. أخرىب

أصبحَ الغربُ، إذًا، أكثرَ غربًا بعد أخذ القسطنطينيّة. لن يتوقّف هذا الغرب الجديد عن إعادة خلْق هويّته من جديد مقابل خصومٍ آخرين. فهو ليس مجرّد نقيضٍ للمسيحيّة الشرقيّة: مذهبًا وسياسية. بل هو انتفاءُ الإسلاميّ، أيضًا، في الشرقِ وفي الغرب الإسلاميّ. انتصر الغرب في الشرق وعليه. وانتصر لاحقًا على الغرب الإسلاميّ عام 1212 في معركة العقاب، التي كانت نقطة تحوّلٍ هامّةٍ في ترجيح كفّة الميزان لصالح التحالفات المسيحيّة الكاثوليكيّة في الغرب الإسلاميّ،[33] وفي تحويل هويّة الغرب إلى هويّة مسيحيّة كاثوليكيّة خالصة تبتعدُ تدريجيًّا ومنهجيًّا – كما سيتّضح لاحقًا – عن أيّ أَثرٍ إسلاميٍّ في تاريخها، وعن الشرق الأرثوذكسيّ، أيضًا.

صعودُ الغرب الكاثوليكيّ

سينجح الشرق الإسلاميّ في تحرير نفسه من الغربيّين اللاتينيّين أواخر القرن الثالث عشر في عهد المماليك، وسيصبح ارتباط الغربِ بالمذهب الكاثوليكيّ أكثر بروزًا. لعلّ الاختبار الأكبر لمتانة الهويّة الغربيّة الكاثوليكيّة وأحد أهمّ معالم تشكّلها في العصر الحديث المبكر، وقع في منتصف القرن الخامس عشر، عندما حاصرت جيوش العثمانيّين – الذين أطاحوا بالمماليك لاحقًا عام 1516 بعد معركة مرج دابق – القسطنطينيّة ذاتها. لم يكن آخر أباطرة البيزنطيّين، قسطنطين الحادي عشر (1405-1453) الشرقيّ الأرثوذكسيّ يتمتّع بخياراتٍ كثيرة: فإمّا الخضوع أمام جحافل الجيوش العثمانيّة، أو الاستنجاد بمسيحيّي الغرب. اختارَ الإمبراطور الحلّ الثاني، وأرسل إلى ملوك الغرب الكاثوليك وإلى البابا نفسه يطلب العوْن ضدّ الأتراك. كان شرط البابا، نيقولا الخامس، لتجريد حملةٍ عسكريّة صليبيّة تُخلّص القسطنطينيّة من محنتها واضحًا: إعلانُ وحدةٍ مسيحيّة تخضع للبابا؛[34] الأمر الذي من شأنه أن يقوّض شرعيّة الكنيسة الشرقيّة وأن يجسّد انتصارًا للكاثوليكيّة الغربيّة. لعلّ ردّ رجل الدولة في القسطنطينيّة آنذاك، لوكاس نوتاراس، كان أبلغ تعبير عن تصوير الغرب بكاثوليكيّته في إطار العدوّ الذي لا يمكن أن يجتمع مع الشرق، حين نادى بشعارٍ ردّده كثيرون غيره من معارضي الوحدة مع الغرب: “عِمامةُ السُّلطان ولا قبّعة الكاردينال”.[35] لم ينسَ الشرقيّون ما أحدثه محاربو الغرب في ديارهم. رغم ذلك، فمن المفارقات التي حدثت في الليلة الأخيرة قبل السقوط، أن اجتمع مَن صادَفَ وجوده في المدينة من غربيّين لاتينيّين وشرقيّين يونانيّين، وأقاموا قدّاسهم الأخير داخل أسوار المدينة المحاصرة.[36] ستتوحّد الكنيسة، نظريًّا، لليلةٍ واحدةٍ فقط، ليبدأ بعدها عهدٌ جديد. فلن تطلع شمس النهار حتّى تكون المدينة قد سقطت في يد المسلمين وتغيّرت هويّتها إلى الأبد.

سيتلقّى الغربُ الصدمة الأولى لخبر السقوط، لكنّه لن يبالي كثيرًا. أو كما قال المؤرّخ الغربيّ الألمانيّ في القرن السّادس عشر، هيرونيموس فولف، “أنا مذهول، ولكنّني لستُ آسفًا، من أنّ شعبًا قذرًا وذليلًا وظالمًا كهذا نجح في أن يبقى لفترة طويلة دون التعرّض لأيّ هجوم، ودون أن يغزوه فاتحٌ حتّى ذلك الوقت”.[37] ستغيب بيزنطة كلّها عن تطوّر الفكر الغربيّ لاحقًا. لن يُذكَر شعراؤها وكتّابها مع مفكّري الغرب المسيحيّ. وسينظر مفكّرو الغرب، في عصورٍ لاحقة، إلى الأدب البيزنطيّ الشرقيّ على أنّه نقيضٌ للعقلانيّة الغربيّة، وأنّ التاريخ البيزنطيّ، على الجُملة، لا يعدو كونه سلسلةً من “التمرّدات والفِتَن والخيانات”؛ بل إنّ مؤرّخين غربيّين من أمثال إدوارد غيبون، الإنجليزيّ، في القرن السابع عشر، سيتجاهل خمسمئة عام تقريبًا من تاريخ بيزنطة في كتابه عن تاريخ الإمبراطوريّة الرومانيّة.[38] سيتحوّل الغربُ الكاثوليكيّ إلى غربٍ عقلانيٍّ يضمّ بين طيّاته استعلاءً على الشرق بكلّ مكوّناته.

لعلّ سقوط القسطنطينيّة، أخيرًا، في يد العثمانيّين عام 1453 كان سببًا في دفع الحملات المسيحيّة الكاثوليكيّة في الغرب إلى فعل المستحيل، لتحرير حيّزها من سُلطان المسلمين، حتّى لا تلقى المصير ذاته. إذ بدأ هذا الغربُ الكاثوليكيُّ الجديدُ، الذي استحوذ على الغرب الإسلاميّ وغيّر هويّته، يتّخذ شكلًا أكثر وضوحًا مع سقوط غرناطة؛ آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492. بعد حصار طويل، نجح الملكان فرديناند الثاني وإيزابيلا الأولى، مَلكا أراغون وقشتالة اللتيْن توحدّتا بزواجهما، في انتزاع غرناطة من المسلمين. تسلّمَ الملكان مفاتيح قصر الحمراء من آخر ملوك بني الأحمر، أبي عبد الله الصغير. استقبلت أوروبا كلّها أخذَ غرناطةَ باحتفالات وقداديسَ في مدنٍ شتّى في النّمسا وألمانيا وإنجلترا وإيطاليا.[39] إذ كان النّصر المسيحيّ، في حينه، بمثابة ردّ اعتبارٍ للمسيحيّين عمومًا عن سقوط القسطنطينيّة قبل ذلك بأربعين عامًا في يد العثمانيّين،[40] وإن كان الغربيّون في حينه، كما سبقت الإشارة، قد تقاعسوا عن مدّ يد العون للبيزنطيّين في محنتهم.[41] الآن، وبعد أن تحقّق الانفصال عن الشرق بسقوط القسطنطينيّة، وتحقّق الانتصار على الغرب الإسلاميّ تمامًا بسقوط غرناطة، بدأ الغرب المسيحيّ الكاثوليكيّ، الذي كان محصّلة هذه الصراعات كلّها، يُعيد إنتاج نفسه على نحوٍ ممنهج سيستمرّ أثره إلى يومنا هذا.

صعود الغرب الحديث

إذا شئنا أن نُحدّد لحظة ولادة الغرب السياسيّ في الحقبة الحديثة المبكرة كما نفهمه اليوم، فينبغي أن ننظر بتمعّنٍ إلى مشهد تسليم غِرناطة. لم يكن الملكان فرديناند وإيزابيلا، وأبو عبد الله الصغير وحدهم في طقسِ تسليم القصر والمدينة. بل كان معهم رجلٌ جنويٌّ في زهاء الأربعين من عمره يُدعى كريستوفر كولومبوس، يقف هناك شاهدًا على ما يجري وينتظر بفارغ الصبر انتهاء مراسم التسليم لينطلق في رحلته البحريّة بأموالِ الملكيْن؛ تلك الرحلة التي سيشهد الغربُ معها تحوّلًا جديدًا. في تلك اللحظة، لحظة تسليم المدينة والقصر، اجتمعَ زمنان وغَربان. زمنُ الأندلسِ الذي انتهى مع هزيمة آخر ملوكه، وزمنُ الإمبراطوريّة الإسبانيّة التوسعيّة الذي سيبدأ الآن. غربٌ إسلاميٌّ فقدَ معناه السياسيّ القديم يلتقي بغربٍ مسيحيٍّ سياسيٍّ جديد. سيسلخُ هذ الغربُ المسيحيّ الجديدُ نفسَه سلخًا عن أيّ ذكرًى لوجود إسلاميّ قديم. وسيقذف بتلك الذكرى إلى الشرق الذي فرّ منه الداخل. لحظةٌ واحدةٌ فاصلةٌ بين زمنيْن: حضارةٌ تنتهي، وأخرى تبدأ. يروي لنا كولومبوس، نفسه، ما شَهِدَه من مراسم تسليم غرناطة في رسالةٍ أرسلها إلى الملكيْن من العالم الجديد، الذي سينضوي تحت جناح الغرب الجديد. افتتح كولومبوس رسالته “باسم ربّنا يسوع المسيح”، وقال فيها: “إنّني، وفي عام 1492 هذا الذي نحنُ فيه، وبعد أن أنهى جلالتُكما الحربَ مع الموريّين ]يعني المسلمين] الذي حَكَموا في أوروبا […] شَهِدتُ رايات جلالتِكما الملكيّة ]تُرفرفُ] فوقَ أبراجِ ]قصر] الحمراء […] وشَهِدتُ الملكَ الموريَّ يتقدّمُ من بوّاباتِ المدينةِ ويُقبّلُ يدَيْ جلالتِكما، ويَد مولايَ الأمير”.[42] إنّ هذه القبلة التي طبعَتها شفتا أبي عبد الله على الأيدي الملكيّة، والتي لا يمكن تصوّرها إلّا في إطار انحناءةٍ ذليلة، ستطبعُ بدوْرها تصوّر العلاقة التي يراها الغربُ غيرُ الإسلاميّ مع ما يراه شرقًا. سيكون الشرق رَديفًا للضعف والانكسار والخضوع للغرب، حتّى إذا بدت في ذلك الشرق قوّة، كان لا بدّ لها أن تكون مؤقّتة وضدّ “طبيعته”، أو أن تكون مصدر تهديد لا بدّ من تغييره ليطابق صورة الضعف الذي يريد الغرب تصويره عن الشرق. فقد أثبت الشرق بالنسبة للغرب، بسقوط المماليك الذين طردوا محاربي الغرب وبسقوط القسطنطينيّة، أنّه قابلٌ للانكسار.

لن ينتظر هذا الغربُ الجديدُ طويلًا ليبدأ بإعادة تشكيل نفسه. فلن ينقضي عام 1492 حتّى يكون هذا الغرب الجديد الذي حلّ محلّ الغرب القديم، قد بدأ بتغريبِ نفسِه أكثر على نحو يتجاوز الحدود الجغرافيّة المعروفة حتّى ذلك الوقت. سيُنشئ الغربُ الكاثوليكيّ امتدادًا سياسيًّا له في العالَم الجديد يكون خاليًا من مخاوفه القديمة، يحاول فيه الاستقلال لا عن الشرق فقط، بل عن العالم القديم برمّته. يظهر ذلك جليًّا في مذكّرات كولومبوس نفسه التي كان يُرسلها إلى الملكيْن. يبشّر كولومبوس الملكيْن بما وجد في العالم الجديد من ذهبٍ وجواهرَ ومياه عذبة وأراضٍ خصبة وخشبٍ وفاكهة غريبة وقطنٍ وحيوانات وأسماك وتوابل ومجموعات بشريّة؛[43] ستُغني أوروبا كلّها لاحقًا عن الاعتماد على الموادّ التي تضطرّ إلى استيرادها من الشرق وعن الاعتماد، كذلك، على الطرق التجاريّة البحريّة التي يتحكّم بها العثمانيّون في الشرق. فإنّ اكتشاف العالم الجديد واستكشافه، حسب جورج صليبا، لم يعرقل الطرق التجاريّة الأورو-آسيويّة في العالم القديم فحسب، بل جلب إلى أوروبا موادّ جديدة؛ كان العالم الإسلاميّ بدأ يفقدها ويطلبها.[44] ستنقلبُ الآية، وسيُصبح الشرق، تدريجيًّا، تابعًا للثروة الطائلة التي سيُحقّقها الغرب في العالم الجديد. ستوفّر هذه الثروة للغربِ الفرصة لدفع عجلة الإنتاج والمعرفة والعِلم والصناعة والقوّة العسكريّة في عصورٍ لاحقة، وتدفعه في مساره التاريخيّ نحو غربٍ عقلانيّ، تمثّل في صعود معاهد أكاديميّة عقلانيّة تموّلها عائلاتٌ أوروبيّة استفادَت من الثروة التي أصابَها الغربُ في العالم الجديد.[45] سيمنحُ هذا الأمرُ الغربَ سُلطةً سياسيّةً تُحدّد شروط العلاقة مع ما يعتبرهُ شرقًا.

لم يكتفِ كولومبوس بالاستيلاء على ما وجد هناك، بل راح يوسّع مفهومَ الغرب السياسيّ-الكاثوليكيّ. فقد أسبغَ بأسماءِ الملكيْن وولدهما، خوان، إلى جانب أسماء قدّيسين كاثوليكيّين على جُزرٍ ومناطقَ شاسِعة في العالم الجديد.[46] كانت هويّة الغرب السياسيّة-الدينيّة التي تجمع بين سُلطة الملك الغربيّ وقداسة المذهب الكاثوليكيّ، تبني لنفسها قاعدةً في العالم الجديد. على أنّ هذا العالم، لم يكن خاليًا من السكان غير المسيحيّين. ولم يفت كولومبوس هذا الأمر، فقد كتب أنّ السكّان الأصليّين طيّعون وفيهم ذكاءٌ يسمح بتحويلهم إلى الكاثوليكيّة.[47] فإذا دخلوا في الكاثوليكيّة، دخلت البلادُ الجديدةُ كلُّها في طاعة الملكيْن واستقام لهما الأمر في تأسيس إمبراطوريّةٍ غربيّةٍ خالصة. كان كولومبوس يمارس استشراقًا على منطقة لم تكن غربًا بعدُ، بالمفهوم السياسيّ، حتّى وصلتها سُفُنه. وكيْ يُخلَق هذا الغربُ الجديدُ، كان لا بدّ له أن يُكرّس انفصاله عن عدوّه القديم، خصوصًا أنّ اتّساع الإمبراطوريّة وضمّها أنواعًا مختلفة من البشر من شتّى المذاهب والأعراق على هذا النحو السريع، كان يستدعي إعادة تعريف هويّتها على نحوٍ أوضح تتلخّص في “إنشاء إمبراطوريّة كاثوليكيّة”.[48] في سبيل تحقيق ذلك، منَعَت السُّلطات الإسبانيّة المسلمين (أو الموريسكيّين، كما صار اسمهم) وكلّ مَن هو غير كاثوليكيّ، مذهبًا، من الهجرة إلى العالم الجديد، حفاظًا على نقاء الهويّة المسيحيّة الكاثوليكيّة هناك، حيث اقتصر السماحُ بالهجرة فقط على المسيحيّين الذين نجحوا في إثبات أنّ كاثوليكيّتهم الغربيّة متجذّرة في نسبهم إلى ثلاثة أجيال مضت على الأقل؛ وقد كان هذا الأمر شائعًا، خصوصًا في القرنيْن السادس عشر والسابع عشر.[49]

لن يمرّ وقتٌ طويل حتّى يبدأ هذا الغربُ المترامي الأطراف بمحاولة إخضاع بقايا ما يراهُ شرقًا إلى سُلطته، أو محاولة غربَنَة تلك العناصر غير الكاثوليكيّة بشتّى الطرق ليأمَن جانبها. كانت محاكم التفتيش – سيّئة السمعة وإحدى أدوات الغربنة العنيفة – التي عملت في نطاق سُلطة التاج الإسبانيّ (حتّى في العالم الجديد) تحرص على “تنقية” الهويّة الكاثوليكيّة الغربيّة بشتّى الطرق، لا من الموريسكيّين فحسب، بل من اليهود أيضًا، وحتّى من كلّ مَن يعارض الإيمان الكاثوليكيّ أو ينقده، ولو كان مسيحيًّا، كالبروتستانت، مثلًا. [50]بلغت محاولة غَربَنة العناصر غير الكاثوليكيّة، ضدّ الموريسكيّين من أهل غرناطة، تحديدًا، مرحلةً حسّاسةً عام 1566 في ظلّ حُكم الملك فيليب الثاني. صادق فيليب الثاني على مرسومٍ ملكيّ، أعلن عنه بعد عام، يحاول من خلاله طمسَ ما تبقّى من الهويّة الإسلاميّة الغربيّة في شبه الجزيرة الإيبيريّة، ومنع التعبير عن أيّ مناحٍ ثقافيّة محتملة في حياة الموريسكيّين.[51] إذ يحظر المرسومُ على الموريسكيّين التحدّث أو القراءة أو الكتابة باللغة العربيّة واستبدال ذلك بالقشتاليّة؛ ويمنعهم من تسمية أولادهم بأسماء عربيّة أو إسلاميّة؛ ويُلزمهم بلِباسٍ قشتاليّ فقط ويمنع النساء من تغطية وجوههنّ؛ ويُعرّض أيّ مظاهر ثقافيّة من غناء ورقص وصلاة لمُساءَلة السُّلطات المسيحيّة.[52] كان الغربُ الكاثوليكيُّ الجديدُ هذا يحاول عمل المستحيل ليكون غربًا صافيًا – أو بمعنًى أدقّ – يحاول ألّا يكون شرقًا، ولا حتّى بقطعة قماشٍ تُغطّي وجه امرأةٍ في أحياء غِرناطة. لم ينتظر الموريسكيّون طويلًا حتّى أشعلوا ثورةً في منطقة البشرات؛ استمرّت أربع سنوات احتجاجًا على المرسوم الملكيّ، زادَ فيها احتقانُ السُّلطة الغربيّة على بقايا مسلمي الغرب القديم الذين رأت فيهم تعبيرًا عن الشرق بعاداته ولغاته. نجح الملك أخيرًا في قمع الثورة ضدّ سياساته، لكنّه فشل في غربنة الملامح الثقافيّة الشرقيّة.

باءَت كلّ محاولات الغربنة تلك بالفشل مع مرور السنين. وعليه، توصّل الملك اللاحق، فيليب الثالث، عام 1609 إلى قرار الطّرد النهائيّ، أو قرار الفصل التامّ الذي سيُحرّر الغربَ – أخيرًا – من ماضيه الإسلاميّ. شَهدت هذه المرحلة – مرحلة ما بعد الطرد – إنتاجاتٍ أدبيّةً لكُتّاب البلاط الذين سيقدّمون سلسلة طويلةً من الأعذار، وسيبدؤون في تدوين سِجلٍّ استشراقيٍّ يُبرّر طرد الموريسكيّين. حتّى أنّ أحدهم –واسمه فرانسيسكو دي بيدرازا – كتب يقول فيهم: “لقد كانوا مسيحيّين في العَلَنِ، وموريّين في الخفاء. اهتمّوا بشعائر طائفتهم واحتفالاتها، ولم يُراعوا شريعة ربّنا ]يسوع[ المسيح… استغلّوا معاملة ملوكنا الحسَنة لهم، وفيهم شوقٌ إلى طُرقِ مِصرَ، إلى خِرافها ونِعاجِها، إلى صلواتهم وشعائرهم التي ورثوها عن أجدادهم”.[53] لقد كان فيليب الثالث واضحًا في الفصل بين هويّةٍ غربيّة وأخرى شرقيّة، إذ كان الطردُ يتمّ إلى ما أسماه “أرضَ البربر” – يعني بها المغرب. بل إنّه منع الموريسكيّين من الذهاب إلى أيّ بلدٍ مسيحيّ عبر الأراضي الإسبانيّة.[54] إنّ هذا الطلاقَ الكاثوليكيّ – إنْ جازَ التعبير – الذي بدأه فرديناند الثاني عام 1492 وأحكَمَهُ فيليب الثالث عام 1609 هو الذي سيجعل الشرق مثيرًا أكثر، جذّابًا لضعفه في عين الغربِ، ليهيمن عليه ويضمن عدم رجوعه إلى سابق قوّته التي أفضت إلى تمدّده داخل الجسد المسيحيّ لنحو ثمانية قرون.

الغربُ وأثر ما بعد الصدمة

كان القرن السابع عشر مفصليًّا في تطهير الغرب من تاريخ الشرقِ فيه، وفي فكرة ترسيخ غربٍ كاثوليكيٍّ-سياسيٍّ قويّ. لكنّ تطوّر الغرب لن يتوقّف هناك. إذ كانت أوروبا بمُجملها قد بدأت بالدخول في عصر جديد يحمل تحدّيات فكريّة ودينيّة جديدة، خصوصًا مع بدء صعود تيّاراتٍ إصلاحيّة مناوئة للنظام الكاثوليكيّ القديم، كالحركة الإصلاحيّة البروتستانتيّة. إذ كان لصعود البروتستانتيّة منذ القرن السابق أثرٌ واضحٌ على تعزيز فلسفة عقلانيّة “نشرت أفكارَ حريّة الضمير وبعض المفاهيم المجرّدة عن التحرّر”، الأمر الذي كان من شأنه أن “يُعيد الغربَ إلى وقتٍ سابقٍ لدوغمائيّة القرون الوسطى الكاثوليكيّة، وشجّع على تطوير الفِكر الإنسانيّ وتطبيقه على المسائل الاجتماعيّة الهامّة”، وهو ما ألقى بأثره على حركاتٍ لاحقة في أوروبا مثل الثورة الفرنسيّة التي استفادت من هذه الأفكار.[55]

بالفعل، اشتعلت الثورة الفرنسيّة نهاية القرن الثامن عشر، وأنتجت عقليّاتٍ ومنظّرين وحركات عسكريّةً وجّهت أسلحتها ضدّ النظام الدينيّ القديم. كانت إسبانيا – ذلك الغرب الرّاسخ في غربيّته – من ضحايا نتائج تلك الثورة. إذ وقعت البلاد تحت الاحتلال الفرنسيّ عام 1808 بقيادة نابليون بونبارت. وكانت أولى القرارات التي اتّخذها الحاكم الجديد تتجلّى في القضاء على محاكم التفتيش الكنسيّة وإلغاء ما يُعرَف بالمكتب المقدّس وكلّ السُّلطات التابعة له.[56] سيشهد القرنان السابع عشر والثامن عشر الولادة الحقيقيّة للعقلانيّة الغربيّة، وسيَبرز مفكّرون من أمثال فرانسيس بيكون وبنجامين فرانكلين ودافيد هيوم وإيمانويل كانط وغيرهم للتنظير لنظام جديد.

ولكنّ تاريخًا طويلًا مثقلًا بصراعات دينيّةٍ دمويّة لا ينتهي بثورةٍ مهما بلغ أثرُها. سيستأنف الغرب حربه ضدّ الشرق، لكن بأدواتٍ مختلفة (ليست عسكريّة فحسب، بل معرفيّة وفكريّة أيضًا)، وسيحافظ الشرق على صورته كنقيض للغرب. فإذا بات الغربُ المسيحيّ مرتبطًا بالعقلانيّة الآن، فلا بدّ أن يرتبط الشرق بغياب تلك العقلانيّة وبالتخلّف والجهل من منظور الغرب، وسترتبط تلك الصفات بالإسلامِ والمسلمين. أمّا الشّرق، في المقابل، فكان قد بدأ يعاني من خساراتٍ ماديّة نتيجة تحوّل الغرب الاقتصاديّ عنه مع اكتشاف العالم الجديد؛ ونتيجة صراعات داخليّة، أدّت، بين أشياء أخرى، إلى انحسار دوْر المدارس والإنتاج المعرفيّ.[57] فصار الشرق، تدريجيًّا، مستهلكًا للمعرفة العلميّة القادمة من الغرب عبر الترجمات في مجالات “العِلم، الجغرافيا، وتصميم الخرائط”.[58] من هنا، باتت المعرفة بإنتاجاتها والتطوّر الناتج عنها علامةً من علامات تطوّر الغرب في نظر الشرق.

ستبرز تلك العلامة المعرفيّة أكثر مع خروج نابليون بونابارت – أحد أبرز نتائج الثورة الفرنسيّة، وغازي شبه الجزيرة الإيبيريّة – في حملته إلى مصرَ والشام من ميناء طولون جنوبَ فرنسا، مجدّدًا بذلك حملات أسلافه ضدّ الشرق – ولن يكون الأخيرَ في فعل ذلك. سيقدّم نابوليون نفسَه في حملته تلك بأنّه حامي حِمى الإسلام في الشرق ضدّ المماليك في مصر [59]وسيحاول “عقلَنَة” احتلاله وتقديم الغرب بوصفه الوصيّ الأكثرَ عقلانيّة[60] الذي يحتاجه الشرق بتخلّفه. سيقرأُ إدوارد سعيد، لاحقًا، أثَرَ هذه الحملة على صورة العلاقة بين الغرب والشرق في العصر الحديث، ويقول إنّه في أعقابها “أُعيدَ بناء الشّرق وأعيدَ تركيبه، وأُحكِمَت صناعته” كجسمٍ معرفيّ.[61] لكنّ سعيد لم يتوقّف هنا، بل أحال إلى مراحِل تَشكُّل العلاقة بين الغرب والشرق قبل الثورة الفرنسيّة، عندما استنتج أنّ الإسلام كان قد شكّل صدمةً لأوروبا كلّها منذ بدايته وحتّى نهاية القرن السابع عشر، وإنّه لطالما كان يشكّل خطرًا – في نظر الغرب – “على الحضارة المسيحيّة بأسرها”.[62] هذه الصدمة الطويلة والمستمرّة، ستترك أثرها على الأدوات التي تميّز العلاقة بين الغرب والشرق مع مرور الوقت. لم تكن تلك الصدمة سوى امتدادٍ لسلسلة طويلةٍ من “الصدمات” المسيحيّة عمومًا، والتي بدأت بصعود الإسلام في القرن السّابع، وتأسيس غربٍ إسلامي في أوروبا، وانتزاع القسطنطينيّة، وترسيخ خلافةٍ عثمانيّةٍ قويّة شكّلت تهديدًا متواصلًا على الغربِ كلّه. تلك هي الصدمة التي شعر بها الفيليبّان، الثاني والثالث، اللذان حرصا كلّ الحرص على صِناعة غرب قادرٍ على مواجهة مخاوفه القديمة وصدماته المتراكمة، وأعادا تركيبه بتصوّر شرقٍ مَهزومٍ كرّس صورتَه فرديناند الثاني في غرناطة قبلهما. ليس في الإمكان، على أيّ حال، صقلُ صورةِ الغرْبِ، أيًّا كانت، بمعزِلٍ عن إنشاء تصوّر للشرق؛ ذلك التصوّر الذي سيُغذّي خيال المستشرقين والمستعمِرين ومدّعي الوصاية حتّى يومنا هذا.

خاتمة

تطوّرَ الغربُ في مساريْن سياسيّيْن-دينيّيْن مختلفيْن-متّصليْن: غربٌ إسلاميٌّ وغربٌ مسيحيّ. بدأ الغربُ السياسيّ الإسلاميّ ككيانٍ مستقلٍّ يقابل خلافة الشرق بفرارِ رجلٍ واحدٍ، هو عبد الرحمن الداخل، نجا من مذبحة ولجأ إلى الأندلس شريدًا طريدًا فصارَ مَلِكًا. من المثير للاهتمام هنا، أنّ الغربَ الإسلاميّ، في قوّته، كان يحلم في أخذ الشرق والسيطرة عليه، كما كان هدف الغرب المسيحيّ لاحقًا. بل إنّه، كالغرب الكاثوليكيّ إلى حدٍّ ما، وجد أنّه الأصحّ عقيدةً وأنّ من واجبه تصويب عقيدة الشرق. على أنّ تلك القوّة لم تدم طويلًا بما يكفي لتؤتي ثمارَ أحلامها الاستعماريّة. فقد أدى انهيارُ خلافة سلالة الداخل إلى بداية صعود غربٍ مسيحيّ، لم يغفر للشرق خطيئته بأن ولدَ الإسلامَ، فحوّل عِداءه كلّه إلى الشرقِ جُملةً، بكلّ مكوّناته من مسلمين ومسيحيّين شرقيّين، وكان سببًا في انهيار الإمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة إلى اليوم.[63]

انتهى الغربُ الإسلاميُّ بسقوط آخر كيانٍ سياسيٍّ مستقلٍّ له بعد نحو 750 عامًا على فرار الدّاخل. ووُلِدَ الغربُ السياسيُّ المسيحيّ بصورته الحديثة في لحظة إعلانِ وفاة الغربِ الأوّل مع قُبلة رجلٍ واحدٍ، هو أبو عبد الله الصغير، للأيادي الملكيّة التي سلّمها مفاتيح المدينة وغادر. بخلافِ الدّاخل الذي خلّف سلالةً من الأمراء والخلفاء بعدَه وأسَّسَ غربًا إسلاميًّا مستقلًّا، كان أبو عبدِ الله آخرَ ملوك ما تبقّى من ذلك الغرب وأوّلَ الشهود الموقّعين على ولادةِ غربٍ مسيحيٍّ سياسيّ حديث. كان ملكًا فصَارَ شريدًا. وبذلك، تكتمل سيرةُ غربٍ إسلاميٍّ سياسيٍّ بدأ وانتهى. على أنّ الغربَ المسيحيّ الذي نشأ على أنقاضه لا يزال حيًّا.

تطوّر الغرب المسيحيّ بتوأمةٍ مع الكاثوليكيّة السياسيّة، ولاحقًا، مع عقلانيّة نفعيّة بدأت ملامحها تتشكّل مع اكتشاف العالم الجديد، ومع صعود حركات إصلاحيّة أوروبيّة، لاحقًا، كالحركة البروتستانتيّة، وبرزَت أكثر في أعقاب الثورة الفرنسيّة، ثمّ حملة نابليون على مصر والشام. كان لهذا التطوّر الأثر البارز في صياغة هويّة الغرب وفهمه وتعريف علاقته بالشرق بكلّ مركّباته حتّى يومنا هذا. لم يكن من الممكن إلّا أن يصبح الغرب اليوم، في عيون الشرق، فكرةً تحمل في طيّاتها معاني الحدّ والسيف والدمع التي طرحها ابنُ منظور في تعريفه – وكأنّه يرى الماضي والمستقبل معًا. فإذا نظرنا إلى تاريخ نشوء الغرب كفكرة سياسيّة، وجدنا أنّه كان مع الشرق – مسيحيًّا أو إسلاميًّا – في حالةٍ من العداء المتفاوت في مراحله. جمع تطوّر الغرب ذلك كلّه، في الجانب المسيحيّ-الشرقيّ، منذ الانشقاق العظيم عن الكنيسة الشرقيّة عام 1054، مرورًا باجتياح قلب الكنيسة الأرثوذكسيّة عام 1204، ووصولًا إلى التخاذل عن نجدة بقايا الإمبراطوريّة الشرقيّة عام 1453، وحتّى فصل التاريخ المسيحيّ الشرقيّ عن تطوّر الفكر المسيحيّ الغربيّ على الجُملة، ونفيه بمفكّريه وشعرائه وأدبائه وسياسيّيه خارج المكتبة الغربيّة تمامًا. أمّا في الجانب الإسلاميّ، فقد كان لصعود الإسلام أثره في أن يكون قوّةً مقابل المسيحيّة كجسمٍ دينيٍّ وسياسيّ. كانت الحملات الصليبيّة واحدةً من أهمّ المحطّات في تاريخ العلاقة التي ستُبنى عليها تصوّرات الشرق والغرب عن بعضهما. وكانت علاقة الغرب الكاثوليكيّ الآخذ في التوسّع مع ماضيه الإسلاميّ إشكاليّةً، مع محاولة غربنة ملامح الشرق في الأندلس ثمّ طمس الفكر الإسلاميّ الغربيّ تمامًا من المكتبة الغربيّة، وتطوّر الغرب العقلانيّ لاحقًا ليكون مقابلًا للشرق المتخلّف. كلّ ذلك، أدّى إلى صعود غربٍ مستقلّ يظهر في عيون الشرق – بكنيسته الشرقيّة وتاريخه الإسلاميّ – بصورةِ الآخر الذي يستدعي ما كتبه ابن منظور وغيره من المعجمّيين عن الغرب؛ بمعانيه المختلفة التي تشمل – حرفًا ومجازًا – حدَّ السيف وبكاءَ العيْن والنزوحَ عن الوطن.

* إياد معلوف، مدرسة علوم الثّقافة، جامعة تل أبيب.

  1. الخليل بن أحمد الفراهيديّ. كتاب العيْن: المجلّد الرّابع. )دار ومكتبة الهلال: 2002)، 409.

  2. محمّد ابن منظور. لسان العرب: المجلّد الخامس. (دار المعارف: 1986)، 3225-3227

  3. مجد الدين الفيروزآبادى. القاموس المحيط. (مؤسّسة الرسالة للطباعة والنشر: 2005)، 119.

  4. مجير الدين العليميّ. التاريخ المعتبر في أنباء من غبر. (دار النوادر: 2001)، 339.

  5. أبو الحسن علي المسعوديّ. التنبيه والإشراف. (مكتبة الشرق الإسلاميّة: 1938)، 287.

  6. محمد ماهر حمادة. الوثائق السياسيّة والإداريّة في الأندلس وشمالي إفريقية. (مؤسّسة الرسالة: 1978)، 33-34.

  7. Nizar F. Hermes. The [European] Other in Medieval Arabic Literature and Culture. (Palgrave Macmillan: 2012), 9.

  8. المصدر السابق. ص. 107؛ 154.

  9. Bernard Lewis. “Muslim Perceptions of the West.” Comparative Civilizations Review. 13(2) (1985): 3.

  10. سيمون حايك. عبد الرحمن الداخل (صقر قريش). (المطبعة البولسيّة: 1982)، 73.

  11. المقرّي، أحمد بن محمد. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب. (دار صادر: 1968)، 330.

  12. أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها رحمهم الله والحروب الواقعة بها بينهم. (دار الكتاب المصريّ في القاهرة ودار الكتاب اللبنانيّ في بيروت: 1990)، 106.

  13. أحمد بن محمد المقرّي. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب. (دار صادر: 1968)، 329.

  14. Robert Hillenbrand. The Ornament of the World: Medieval Cordoba as a Cultural Centre.” The Legacy of Muslim Spain (2011): 122.

  15. Peter Heath. “Knowledge.” In The Literature of Al-Andalus. (Cambridge University Press: 2009), 110.

  16. Stanley N. Katz. The Oxford International Encyclopedia of Legal History. (Oxford University Press: 2009), 127.

  17. Peter Heath. “Knowledge.” In The Literature of Al-Andalus. (Cambridge University Press: 2009), 110.

  18. محمد ماهر حمادة. الوثائق السياسيّة والإداريّة في الأندلس وشمالي إفريقية. (مؤسّسة الرسالة: 1978)، 161

  19. أحمد بن علي المقريزيّ. رسائل المقريزيّ. (دار الحديث: 1998)، 13.

  20. Janina M. Safran. The Second Umayyad Caliphate: The Articulation of Caliphal Legitimacy in Al-Andalus. (Harvard CMES: 2000), 8-9.

  21. محمد ماهر حمادة. الوثائق السياسيّة والإداريّة في الأندلس وشمالي إفريقية. (مؤسّسة الرسالة: 1978)، 126.

  22. المقرّي، أحمد بن محمد. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب. (دار صادر: 1968)، 393-394.

  23. Jonathan Riley-Smith. The First Crusade and the Idea of Crusading. (University of Pennsylvania Press: 1986), 18.

  24. المصدر السّابق.

  25. Steven Runciman. A History of the Crusades: Volume 1, the First Crusade and the Foundation of the Kingdom of Jerusalem. (Cambridge University Press: 195), 91-92; 128.

  26. Dana Carleton Munro. “The Speech of Pope Urban II. at Clermont, 1095.” The American Historical Review 11(2) (1906): 242.

  27. وقع الانشقاق العظيم بسبب خلافات سياسيّة وكنَسيّة ولاهوتيّة عام 1054 بين اللاتينيّين الغربيّين واليونانيّين الشرقيّين.

  28. Steven Runciman. A History of the Crusades: Volume 1, the First Crusade and the Foundation of the Kingdom of Jerusalem. (Cambridge University Press: 195), 250.

  29. Ralph-Johannes Lilie. Byzantium and the Crusader States, 1096-1204. (Clarendon Press: 1994), 5.

  30. Michael J Angold. The Fourth Crusade: Event and Context. (Routledge: 2015), 112-113.

  31. Steven Runciman. A History of the Crusades, Volume III: The Kingdom of Acre, And the Later Crusades. (Cambridge University Press: 1965), 128.

  32. Nikolaos G. Chrissis. “Tearing Christ’s Seamless Tunic? The ‘Eastern Schism’ and Crusades Against the Greeks in the Thirteenth Century.” The Expansion of the Faith: Crusading on the Frontiers of Latin Christendom in the High Middle Ages (2022): 234.

  33. Luis García-Guijarro. “The Battle of Las Navas de Tolosa (1212) in the Context of Ibero-Christian Conquests in al-Andalus: Myths and Models.” The Expansion of the Faith: Crusading on the Frontiers of Latin Christendom in the High Middle Ages (2021): 211.

  34. Charles A. Frazee. The Catholic Church in Constantinople, 1204-1453. (Balkan Studies, 19(1) (1978): 44.

  35. مُقتبَس في Steven Runciman. A History of the Crusades, Volume III: The Kingdom of Acre, And the Later Crusades. (Cambridge University Press: 1965), 21

  36. Charles A. Frazee. The Catholic Church in Constantinople, 1204-1453. (Balkan Studies, 19(1) (1978): 47.

  37. Nathanael Aschenbrenner & Jake Ransohoff. The Invention of Byzantium in Early Modern Europe. (Dumbarton Oaks Research Library and Collection: 2021), 5.

  38. المصدر السّابق، 6.

  39. Mathew Carr. Blood and Faith: The Purging of Muslim Spain, 1492-1614. (Hurst Publishers: 2009), 22.

  40. Elizabeth Drayson. “Nasrid Granada: The Case for Spain’s Cross-Cultural Identity.” Histories, 2(1), (2022): 77.

  41. Kelly DeVries. “The Lack of a Western European Military Response to the Ottoman Invasions of Eastern Europe From Nicopolis (1396) to Mohacs (1526).” The Journal of Military History, 63(3) (1999): 544.

  42. Christopher Columbus. Journal of Christopher Columbus (During His First Voyage, 1492–93). (Cambridge University Press: 2009), 15.

  43. المصدر السّابق، 47-74.

  44. George Saliba. Islamic Science and the Making of the European Renaissance. (MIT Press: 2011), 250,

  45. المصدر السّابق، 250-252.

  46. Christopher Columbus. Journal of Christopher Columbus (During His First Voyage, 1492–93). (Cambridge University Press: 2009), 45-98.

  47. المصدر السّابق، 47.

  48. Karoline P. Cook. Forbidden Passages: Muslims and Moriscos in Colonial Spanish America. (University of Pennsylvania Press: 2016), 2.

  49. المصدر السّابق، 1.

  50. E. William Monter. Frontiers of Heresy: The Spanish Inquisition From the Basque Lands to Sicily. (Cambridge University Press:(2003), 39.

  51. Mary Elizabeth Perry. “Moriscos, Género Y La Política Religiosa De La España De Los Siglos XVI Y XVII.” Chronica Nova. Revista De Historia Moderna De La Universidad De Granada, (32) (2006): 264.

  52. Patrick Williams. Philip II. (Palgrave Macmillan: 2001), 104.

  53. Jon Cowans. Early Modern Spain: A Documentary History. (University of Pennsylvania Press: 2003), 145.

  54. المصدر السّابق، 146-148.

  55. Bryan Banks. “The Protestant Origins of the French Revolution: Contextualizing Edgar Quinet in the Historiography of the Revolution, 1789-1865.” Proceedings of the Western Society for French History (42) (2014): 70-73.

  56. Henry Kamen. The Spanish Inquisition: A Historical Revision. (Yale University Press: 2014), 372.

  57. Miri Shefer-Mossensohn. Science Among the Ottomans: The Creation & Exchange of Knowledge. (University of Texas Press: 2015), 132.

  58. Ayşe Feza Günergun. “Ottoman encounters with European science: sixteenth-and seventeenth-century translations into Turkish.” Cultural Translation in Early Modern Europe (192) (2007): 210.

  59. إدوارد سعيد. الاستشراق: المفاهيم الغربيّة للشرق. (رؤية للنشر والتوزيع: 1995)، 154.

  60. المصدر السّابق، 161.

  61. المصدر السّابق، 162.

  62. المصدر السّابق، 124.

  63. ليس غريبًا أن تحمل عاصمة المسيحيّة الأرثوذكسيّة في الشرق اليوم، موسكو، لقبَ “روما الثالثة” في الخطاب المناهض للغرب عمومًا (دوروسزكزيك 2018:49)، خلفًا لروما الثانية (بيزنطة) ووريثتها الشرعيّة في وجه الغرب. Justyna Doroszczyk. “Moscow – Third Rome as Source of Anti-Western Russian Geopolitics.” Historia I Polityka 31(24) (2018): 47-59.