من زمان نفسي أغنيلك
وأحكي لك قد إيه، أنا بحبك
وأمسك قلمي وأكتبلك
وأعمل أغنية بإسمك
وأسرح بعيد، وأفتكرك
كل الكلام اللي جوايا مش كفاية وميكفيش
حتى البداية لما كنت واقفة معايا
في بداية الطريق والحلم كان لسه بعيد
في عز يأسي وكل الدنيا ماشية عكسي
عشانك أنا قادر أكمل عشانك قادر أتحمل
وكل مرة بشوفك بحبك ثاني من الأول
عشانك أنا قادر أكمل عشانك قادر أتحمل
وكل مرة بشوفك بحبك ثاني
ليلى، ليلى، ليلى، ليلى
بهذه الكلمات، يفتتح مُغنّي فرقة الروك المصريّة “كايروكي”، الفنّان أمير عيد، أغنية – “ليلى”. وبهذه الكلمات، أفتتح كذلك هذا المقال، كونها تعرّف الصورة المركّبة لوِصال ليلى والشوق إليها في المفهوم الثقافيّ والسياق العربيّ. “كل الكلام اللي جوايا مش كفاية وميكفيش”، وبالفعل، كلّما تعمّقت أكثر في دراسة مصادر الاسم وسياقاته، فهمت المتبقّي منه مستورًا وغائبًا وغيبيًّا. كثُر استخدام الاسم “ليلى”، وازدادت سياقاته عبر العصور، وفي كلّ مرّة تمكّن من مراكمة الدلالة وحشدها وحمل أعباء جديدة تزيد من معانيه ومغازيه.
يتردّد صدى اسم “ليلى” بسحر غامض يتجاوز الحدود والثقافات، ويترك بصمة لا تمحى في الأدب، والموسيقا، والفنّ العربيّ، والعالميّ. لغويًّا، اُشتقَّ اسم “ليلى” من كلمة “الليل”، ومع ذلك، فإنّ أهميّته تمتدّ إلى ما هو أبعد من جذوره اللغويّة، فيأسر القلوب والعقول بمظاهره الثقافيّة المتنوّعة. ينطلق هذا المقال في رحلة لكشف النسيج الآسِر المنسوج باسم “ليلى” في مجالات مختلفة من التعبير البشريّ، من خلال التعمّق في الشعر العربيّ القديم، الشعر الدينيّ الصوفيّ، أصداء الأساطير اليهوديّة، الإشارات المعاصرة في الموسيقا العربيّة البديلة. علاوة على ذلك، وبالاعتماد على نظريّة ميشيل فوكو حول السلطة والخطاب، أسعى في هذه المادّة إلى فهم علاقات القوّة التحويليّة بين الشرق والغرب، التي تتشابك مع الدلالات والتمثيلات المتطوّرة من خلال تمثيلات وبلورة شخصيّات تحمل اسم “ليلى”.
يُعتَبَر الشعر العربيّ القديم مستودعًا ثريًّا باسم “ليلى”، ويقدّم لمحات عن مظاهره الثقافيّة الأولى. برز النموذج البدئيّ-الأرختيبيّ لليلى، الذي خلّده قيس بن الملوّح، على أنّه تجسيد للحبيبة صعبة المنال والوصال. لم يمنح هذا التصوير “ليلى” جاذبيّة خالدة فحسب، بل غرَسَ أيضًا بذور سرد أوسع يحيط بالاسم – وهو سرد من شأنه أن يتطوّر على مدى قرون، ويتبنّى أبعادًا جديدة ويجسّد الديناميكيّات المتغيّرة للثقافة الإنسانيّة. سوف يتتبّع الاستكشاف التالي هذه الرحلة التحويليّة، ويسلّط الضوء على ظهور “ليلى” كنموذج بدئيّ – أرخيتيبيّ قويّ؛ يمثّل القوّة النسائيّة وصمودها ونضالها ضدّ الظلم الاجتماعيّ.
في هذه المادّة، لن أتمكّن من كشف كافّة الدهاليز التي يأخذنا فيها اسم “ليلى”، إلّا أنّني سأبذل جهدي لأعرض غيضًا من فيض توظيفاته العديدة، بادئًا بمفاهيمه اللُّغوية بإيجاز، ثمّ مركّزا حصّة الورد في المادّة حول بحث سياق توظيف اسم ليلى في الشعر والميديا، في العالم العربيّ والشرقيّ والغربيّ. هذا بالإضافة إلى أنّ تركيز هذه المادّة سوف يفضّل القراءات التناصّيّة الحديثة لحضور الاسم، عوضًا عن التركيز المعتاد على ماضيه وتمثيلاته القديمة. بما معناه، ستعرض هذه المادّة تقصّي رمزيّات حضور بارزة للاسم “ليلى”، ومن خلالها يتمّ عرض ثيماته المركزيّة.
ليلى لغةً وشعرًا
يدلّ الاسم ليلى في اللغة العربيّة على نشوة الخمر وبدء السكرة في معجم المعاني الجامع[1]. وفي لسان العرب[2]، الليلةُ اللَيْلَى أو الليلاء هي الليلة الطويلة الشديدة الصعبة، أَو هي أَشدُّ ليالي الشهر ظُلمةً. ومعناها كذلك الخمرة، ومنهم من ذهب إلى أنّ الخمرة السوداء تسمّى “ليلى”. وبالرغم من هذيْن المعنييْن، أو قد يكون بفضلهما، نجد تسمية ليلى قد أصبحت رمزيّة وتحمل الكثير من المعاني والإسقاطات المجتمعيّة والمجازيّة في الثقافة العربيّة، القديمة كما الحديثة.
في النصوص العربيّة القديمة، كثر استخدام اسم “ليلى” في الأشعار والنثر والأمثال العربيّة. ليلى العامريّة، معشوقة قيس، هي بلا شكّ أشهر اللّيليات القديمة، ولليليات أخريات عشّاق آخرون[3]. ليلى العامريّة هي شاعرة شهيرة من قبيلة هوازن، ولدت في عصر الخليفة عثمان بن عفّان في منتصف القرن السابع للميلاد، والقرن الأوّل للهجرة[4]. وُلدت ليلى في بلدة كان اسمها في تلك الأيّام “النجوع”، وتغيّر اسمها حتّى أصبح يحمل اسم ليلى. وفي أيّامنا هذه، أصبحت قرية ليلى مدينة، وهي عاصمة محافظة الأفلاج في منطقة الرياض.
وصلتنا أخبار ليلى وقيس من خلال أشعارهم، وازدادت قصّتهم شهرة في بلاد المشرق والمغرب نتيجة تناقل عشرات الشعراء أخبارهم وتوظيف أسمائهم. ارتبط اسم قيس بالجنون منذ أيّام حياته، وبقي اسم ليلى وأصبح من أبرز أسماء النساء التي تُميّز الثقافة والحضارة العربيّة. حتّى يومنا هذا، ما زالت أسماء ليلى وقيس تتردّد على مسامع زوّار الجزيرة العربيّة. كما يذكر المستشرق إغناطيوس كراتشكوفسكي، أحد أبرز باحثي “ليلى ومجنون” في قوله: “إنّ المسافر في الصحراء السوريّة في عصرنا هذا (قاصدًا بداية القرن العشرين)، لا بدّ أن يسمع من القبائل البدويّة قصّة الأمير قيس بن الملوّح العامريّ الذي جُنّ بحبّ ليلى، ومات في الفلوات صريع حبّها”[5].
يقول عبد الستار أحمد فرّاج في دراسته “ديوان مجنون ليلى”: “وأمّا كثرة المجانين بليلى فهذا أمرٌ طبيعيّ، إذ أنّ الليلَيات في العُرب كثيرات، والعُشّاق كثيرون”[6]. ويضيف مشكّكًا بأُحادية الليلى قائلًا: “وبنو عامر وحدهم قيل إنّ فيهم أكثر من مجنون”، وقد روى الأصمعيّ قائلًا: “سألت أعرابيًّا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامريّ، فقال: عن أيّهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعة رُموا بالجنون، فعن أيّهم تسأل. فقلت: عن الذي كان يُشبّب بليلى، فقال: كلّهم كان يُشبّب بليلى”. يأخذنا فرّاج كذلك خطوة إلى الأمام، معتمدًا على ما سبق، نافيًا إمكانيّة الحسم في أمر كيان قيس وليلى أنطولوجيًا. في فصل آخر من مقدّمته للديوان، يعرض لنا قائمة طويلة من الليليات تحت مسمّى “ليلَيات أُخر”، كما هي ليلى في شعر امرئ القيس، فضلًا عن قيس ابن الملوّح، وليلى في شعر الأعشى والسمهري وزيادة بن زيد وأبي هلال الأحدب وغيرهم كثرة.
ليلى حاضرة كذلك في عشرات الأشعار غير المنسوبة، وفي دراسة أجراها فاروق مواسي[7] متقصّيًا أعقاب المثل القائل “كلٌّ يُغنّي على لَيلاه”، يذكر أنّ “هذا المعنى مستقى من الآية الكريمة – {كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ} – من سورة المؤمنون، الآية 53، وهو يدلّ على تشتّت القوم، وأنّهم لا يرون الحقّ إلّا فيما اختاروا هُم. أخذ المثل يتّسع في معناه، فنقوله اليوم لمن يستقلّون بالشخصيّة، أو للدلالة على أنانيّة هذا وذاك.” وبالرغم من تعدّد الصياغات وصور الذكر في الشعر القديم، ففي النهاية يبقى في الذهن العربيّ العامّ تردّدُ قول للجاحظ: “ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل قيل في ليلى إلّا نسبوه إلى المجنون”[8].
إلّا أنّ هذه الليلى وهذا المجنون لم ينحصرا في العالم العربيّ وشعره، لا في الماضي ولا في الحاضر. ليلى والمجنون، اقتحما حدود الثقافة العربيّة منذ القرن التاسع، حيث اشتهرت قصّتهم في بلاد فارس بأشعار الرُّودَكي (مترجم كليلة ودمنة للفارسيّة) وبابا طاهر الشاعر الصوفيّ الكرديّ ابن القرن الحادي عشر[9]. لكنّ أشهر مَن تطرّق لليلى ومجنونها كان عملاق الشعر الفارسيّ، ابن أذربيجان، نظامي الكنجَوي، في روايته “ليلى ومجنون”[10] من القرن الثاني عشر. وأضاف الباحث حسن دَلفقاري[11] مسحًا وجد فيه أشهر التراجيديّات الرومانتيكيّة الفارسيّة، وتشمل 59 إصدارًا لليلى والمجنون كأشهر قصّة رومانتيكيّة في العالم الإيرانيّ، يتبعها 51 إصدارًا من خِسرو وشيرين، 22 رواية من يوسف وزليخا، و16 إصدارًا من فامق وأدرا. ويذكر الباحث أسدُليث[12] أكثر من 80 شاعرًا مختلفًا تطرّق في شعره لمجنون وليلى. أدّى نجاح النصّ في الأوساط الفارسيّة إلى تحوّله لأحد أبرز النصوص المرسومة في المنمنمات؛ ممّا يجعله تحفة فنيّة كذلك.
ونجد تناصًّا آخر متكرّرًا، هو وصل ليلى بالعراق، بالرغم من أنّ العامريّة كانت ابنة الأفلاج في شبه الجزيرة العربيّة. تقول الأسطورة إنّ ليلى رحلت مع أهلها إلى العراق هربًا من قيس المجنون وهيامه بها، وأنّها مرضت في بعدها عنه، فبدأ بمعاناته وأنينه وويلاته، معاتبًا نفسه كيف له أن ينسى ليلى:
يقولون ليْلى بالْعِرَاقِ مَريضةٌ
فَمَا لَكَ لا تَضْنَى وأنْتَ صَديقُ
سقى الله مرضى بالعراق فإنّني
على كلّ مرضى بالعراق شفيقُ
فإنْ تَكُ لَيْلَى بالْعِراقِ مَريضَة
فإنّي في بحر الحتوف غريقُ
لكنّ قصّة ليلى مع العراق لا تقتصر على العامريّة ومجنونها، ففي بداية القرن العشرين، أصبحت ليلى في العراق رمزًا للحراك النِسويّ في بداياته. “ليلى”، هي مجلّة نسائيّة ظهرت في بغداد، العراق، عام 1923، وكانت الأولى من نوعها باللغة العربيّة. لعبت المجلّة دورًا مركزيًّا في ازدهار الحركة النسائيّة في العراق. أسّست المجلّة الصحافيّة بولينا حسّون، ابنة العراق والشام بعد عودتها من سفر في بلاد الشام. كانت المجلّة مخصّصة حصريًّا لمعالجة هموم المرأة وقضاياها اليوميّة والحقوقيّة. حيث صدرت في 20 عددًا من 15 تشرين الأول 1923 إلى 3 كانون الثاني 1925. رغم أهمّيّتها الكبيرة وتأثيرها على الحراك النسويّ في العشرينات في العراق، أدّت الصعوبات الماليّة والمعارضة والملاحقات من الجماعات “المحافظة” في النهاية إلى إغلاق المجلّة ووقف إصدارها. كانت ليلى سابقة لعصرها ومهّدت الطريق لمجلّات نسائيّة في المستقبل، والتي لم تظهر إلّا بعد أكثر من عقد من الزمان. وتزامن ذلك مع الحركة النسائيّة العراقيّة واعتبرت رائدة في إبراز قضايا المرأة. مثلًا في عام 1924، نشرت المجلّة افتتاحيّةً تحثّ المجلس العراقيّ على منح المرأة حقوقًا عادلة.
إذًا، واستنادًا إلى ما سبق، تُمكنّنا نظرية ميشيل فوكو حول السُلطة والخطاب[13] من فهم نقد السياق العام لتأثير اسم ليلى على الحيّز الثقافيّ العربيّ. يركّز نهج فوكو على العلاقة بين السلطة والمعرفة والخطاب في تشكيل الممارسات الاجتماعيّة والثقافيّة، وبتطبيق على انتشار اسم “ليلى” وتكرار ظهوره في الشعر العربيّ القديم، يمكننا دراسة ديناميكيّات القوّة والتشكيلات الخطابيّة المحيطة بشخصيّات ليلى المتعدّدة، وكيفيّة ترجمتها إلى حراكات ونشاطات سياسيّة فعّالة كما في حالة المجلّة العراقيّة.
اسم “ليلى” واسع الاستخدام في النصوص العربيّة القديمة، بما في ذلك الشعر والنثر والأمثال. يوضّح هذا البناء الخطابيّ لليلى بوصفها شخصيّة بارزة في الثقافة والأدب العربيّيْن، وقد يجادل فوكو بأنّ الاستدعاء والتداول المتكرّر لاسم ليلى يساهم في بلورة أهمّيّتها الرمزيّة والثقافيّة. شهرة وتأثير قصّة ليلى وقيس (المجنون) في العالم العربيّ، وتوظيف أسمائهم من قبل العديد من الشعراء يعكس العلاقة بين القوّة والمعرفة. حيث أصبحت شخصيّتا ليلى وقيس جزءًا لا يتجزّأ من الوعي الجماعيّ اعتمادًا على انتشار قصّتهما، وتعزيز الأعراف والقيم الثقافيّة. هكذا؛ لم تعد ليلى ومجنون مجرّد أسماء، بل تحوّلت إلى نوع من النماذج البدئيّة-أرخيتيبيّة كما وصفها كارل يونغ[14]. النماذج البدئيّة هي أنماط رمزيّة تُقيم في اللاوعي الجماعيّ للإنسانيّة وتتكرّر في التجارب والسلوك والروايات البشريّة. أصبحت قصّة ليلى وقيس راسخة بعمق في النسيج الثقافيّ للأدب العربيّ والفارسيّ، متجاوزة الحدود الزمنيّة والجغرافيّة. أصبحت شخصيّتا ليلى والمجنون تمثّلان موضوعًا عالميًّا للحبّ العاطفيّ والجنون والتوق إلى الاتّحاد. ولا زالت قصّتهما تجذب انتباه الجماهير وتعمل كمصدر إلهام للشعراء والكتّاب، وتجسّد العناصر النموذجيّة، للحبّ والشوق، التي يتردّد صداها مع النفس البشريّة عبر الثقافات والزمن.
ليلى في الصوفيّة
يكثرُ ذكرُ اسم “ليلى” كذلك في الشعر الصوفيّ، إلى جانب اسم “سلمى”. فما هو سرّ ومقصد توظيفه في هذا النوع من الشعر الروحانيّ والدينيّ. يقول الشيخ أحمد العلاويّ: “دنوت من حيّ ليلى ** لمّا سمعت نداها” ويضيف: “إن رأت سواها عيني ** كالليلِ إذا يغشاها / فاقَت حورَ الخلدِ حقّا ** والسما وما بناها / بل هي حورُ الأعيانِ ** والأرضِ وما طحاها”[15]. فالليلى التي يصفها العلاويّ تظهر في القصيدة شخصيةً معنويةً أكثر من كونها حسّيّة، ويكتب السيّد بدري المدنيّ[16] أنّ مراد هذه القصيدة هو “النقل إلى مرحلة الدخول لحضرة المولى عزّ وجلّ”. ويضيف: “لو أنّنا نستطيع فهم الروح التي بين جنبينا لعرفنا خالقنا أحسن معرفة يقال: «من عرف نفسه عرف ربّه» ولو أنّنا سلكنا مسلك العارفين وفهمنا أقوالهم لعرفنا هذه اللطيفة الربّانيّة والروح السامية، لقد قرّبوا لنا المعنى لكنّنا نحن في غفلة”.
يقول عبد الرحمن الوكيل في تعليقه على كتاب مصرع التصوّف؛ للإمام برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي: “النساء عند الصوفيّة هنّ أجمل تعينات الذات الإلهيّة. ودائمًا ترى الصوفيّة يلهجون بذكر النساء، ويرونهنّ أكمل وأجمل وأتمّ تعينات الذات الإلهيّة ومجاليها”[17]. ويذكر الإمام عبد الوهاب الشعرانيّ في كتابه “الطبقات الكبرى”[18] اقتباس قيس عندما سُئِل لماذا يقول أنّه لا يحبّ ليلى: “لأنّ المحبّة ذريعة للوصلة، وقد سقطت الذريعة، فليلى أنا، وأنا ليلى”. ما يلخّصه إحسان إلهي ظهير في كتابه “دراسات في التصوّف”[19] بأنّ ذكر هذه الحكاية جاءت للاستدلال منها على اتّصال الصوفيّ بذات الله سبحانه وتعالى. هكذا يصف باحثو التصوّف العلاقة المباشرة بين الحبّ الطبيعيّ والحبّ الإلهيّ. فالاستدلال بأسماء النساء ووصف كمالها، جاء في وظيفتين مركزيّتين، الأولى وصف كمال الخلق الإلهيّ، والثانية هي الوصال مع الإله والعلاقة الوجدانيّة بحبّه. ويلخّص ظهير هذا الادّعاء بمقولته: “هكذا اعتقد الصوفيّة أنّ الله يتجلّى في الصور الجميلة من النساء والصبيان، فالعشق بهنَّ هو العشق بذات الله تعالى، وعلى ذلك لا يستحيون من ذكر وقائعهم التي مضت بهم من العشق بالجواري والصبيان”[20]. بما معناه، كلّما ظهر غزل لليلى في الشعر الصوفيّ، فهو رمزيّة صريحة على تمجيد الذات الإلهيّة، فعشق ليلى هو عشق الله، والتماهي بين النساء وكمالهنّ والربّ وكماله أصبح رمزًا في الشعر الصوفيّ.
أدّى هذا السياق لوصف الكثيرين من مدّعيه بالزندقة والكفر، كما وصف عبد الرحمن الوكيل في “مصرع التصوّف”: “يفتري سلطان الزنادقة أنّ الذات الإلهية – أتمّ وأجمل ما تتجلّى – في صورة النساء الجميلات، ويفتري أنّها تجلّت في صورة ليلى وبثينة وعزّة، وقد رمز بهنّ عن كلّ امرأة جميلة عاشقة معشوقة، ولمّا كان من طبيعة هذا الربّ الصوفيّ العشق، كان لا بدّ له من التجلّي في صور عشّاق ليعشق، ويعشق، فتجلّى في صور قيس وجميل وكُثَير، عشّاق أولئك الغانيات”[21].
يمكننا تحليل الإشارات إلى “ليلى” و “سلمى” في الشعر الصوفيّ باعتماد نظريّة فوكو كذلك، حيث يمكن فهم استخدام هذه الأسماء وأهمّيّتها كجزء من خطاب يشكّل ويعزّز بعض الممارسات الدينيّة والروحيّة. يسلّط مفهوم فوكو الضوء على معرفة القوّة وعلى كيفيّة إنشاء الخطابات للمعايير والمعتقدات والهويّات، ضمن سياق معيّن. تصوير شعراء الصوفيّين لليلى كشخصيّة روحية، لا مجرّد شخصيّة حسّيّة هو جزء لا يتجزّأ من خطاب يربط بين الحبّ البشريّ والرغبة بالحبّ الإلهيّ. وفقًا لفوكو، لا تنقل الخطابات المعنى فحسب، بل تنتج أيضًا علاقات القوّة وتعزّزها. يمكن النظر إلى تمثيل ليلى والعلاقة بين الحبّ البشريّ والحبّ الإلهيّ على أنّه ممارسة استطراديّة، تنظّم وتشكّل الفهم الصوفيّ للروحانيّة والعلاقة مع الإله. علاوة على ذلك، فأدوات نقد القوّة والخطاب تسلّط الضوء على الطرق التي تعمل بها السلطة، من خلال الإقصاء وخلق “الآخرين”. يمكن أن يساعد مفهوم فوكو حول علاقات القوّة وآليّات الإقصاء في فهم كيفيّة تصنيف ممارسات أو خطابات معيّنة؛ على أنّها منحرفة أو هرطقة داخل الخطاب الدينيّ السائد. من خلال استخدام نقد السلطة والخطاب، يمكننا تحليل الطرق التي تعمل بها السلطة من خلال الممارسات الخطابيّة، وبناء القواعد والهويّات، واستبعاد ممارسات أو معتقدات معيّنة، وإنتاج المعرفة في سياق الشعر الصوفيّ والروحانيّة.
إلّا أنّ التهجّم على الليلَيات، وشيطنتها بوصفها أداةً لممارسة الزندقة والكفر، لا يقتصر على الصوفيّة، بل كان له حضور كذلك في ثقافات أخرى وصور أخرى، لا تقتصر على الشعر، كما جاء مثلًا في الميثولوجيا اليهوديّة.
ليلى في الميثولوجيا اليهوديّة
في محاولة إتيمولوجيّة لتقصّي مصدر الاسم ليلى، سرعان ما يتوارد لأذهاننا اسم ملكة الليل، أم الشياطين والشيديم (שדים)، هي ليليث، أو ليليت بالعبريّة، اسم له مصادر وثيقة في الليل وقد نترجمه مباشرةً للعربيّة بِـ”ليليّة”. تظهر ليليث في الميثولوجيا السومريّة كآلهة الليل، لكنّنا نعرفها أكثر في الميثولوجيا اليهوديّة باعتبارها شيطانة الليل وزوجة الشيطان، بعد أن “خانت” آدم مع الشيطان. تظهر شخصيّة ليليث في الميثولوجيا اليهوديّة عدّة مرّات، في التلمود البابليّ وفي كتاب “ألفباء بن سيرة” (אלפא ביתא דבן סירא)[22]، حيث تحكي الأسطورة أنّ الإلوهيم قد خلق الأنثى مرّتين: المرّة الأولى في الفصل الأوّل من سفر التكوين حيث يقول: “فَخَلَقَ اللهُ الإنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرا وَأنْثَى خَلَقَهُمْ”. ثمّ مرّة ثانية في الفصل الثاني عند قوله: 18 “وَقَالَ الرَّبُّ الإلَهُ: «لَيْسَ جَيِّدا أنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَاصْنَعَ لَهُ مُعِينا نَظِيرَهُ». ويستمرّ 21 “فَأوْقَعَ الرَّبُّ الإلَهُ سُبَاتا عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أضْلاعِهِ وَمَلأا مَكَانَهَا لَحْما”. 22 “وَبَنَى الرَّبُّ الإلَهُ الضِّلْعَ الَّتِي أخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَاةً وَأحْضَرَهَا إلَى آدَمَ”. 23 “فَقَالَ آدَمُ: «هَذِهِ الْآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَاةً لأنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ»”.
يتساءل التفسير التلموديّ لثنائية الخلق هذه، عن حاجة الإله لخلق أنثى ثانية لآدم؟ ويدّعي أنّ المرأة الأولى كانت ليليث والثانية حوّاء، وأنّ ليليث، بما أنّها خُلقت مساوية لآدم، “ذكرًا وأنثى خلقَهُم”، فلم يتّفقوا على ترتيب الفوقيّة الجنسيّة بينهم. أو بكلمات صريحة، هذا يعني أنّهم اختلفوا حول من يجب أن يكون فوق الآخر خلال العلاقة الجنسيّة. عندها تستاء ليليث من آدم وتضاجع الشيطان، ثمّ تلد منه العفاريت أو الشيديم. ويتوجّه آدم إلى الربّ شاكيًا منها، فيخلق له الربّ حوّاء، هذه المرّة من ضلعه، لتكون له “معينًا نظيرَهُ (עזר כנגדו)”[23]. بسبب تحدّي ليليث لآدم، أصبحت تمثّل في الثقافة البشريّة المرأة القويّة، الشديدة، المعترضة على العادات والتقاليد، وبشكل خاصّ – تلك العادات المناهضة لحقوق النساء والمساواة التامّة – حتّى في العلاقة الجنسيّة. هذا التصوير، جعل العديد من الجمعيّات النّسويّة المُعاصرة تَسِمُ نفسها بهذا الاسم[24].
في البحث التلموديّ عن اسم ليلى، يمكننا كذلك، إيجاد الملاك “لايلا” (לילה) وهو الملاك المسؤول عن الحمل والولادة في التلمود البابليّ. حسب الميثولوجيا اليهوديّة، فـ”لايلا” هو الملاك المسؤول عن قدرات المولود الثلاث – القدرة الجسديّة والقدرة الذهنيّة والقدرة المادّيّة.
يؤكّد فوكو على دور الخطاب في تشكيل السلوك الاجتماعيّ، ويسلّط الضوء على فكرة المقاومة، من خلال توجيه الخطاب إلى نقد الهياكل السلطويّة. يثير الخطاب المحيط بخلق ليليث وحوّاء وموقعهنّ بالنسبة لآدم، أسئلةً حول التسلسل الهرميّ للسلطة والعلاقات الجنسيّة. يؤثّر هذا الخطاب على الأعراف والمواقف المجتمعيّة تجاه المرأة، بل ويتحدّى الأدوار التقليديّة للجنسيْن ويدعو إلى تمكين المرأة. ليليث، تمثّل امرأة قويّة ومتحدّيّة، تتحدّى الأعراف المجتمعيّة والأدوار التقليديّة للجنسين. يمكن اعتبار تحدّيها وارتباطها اللاحق بالشيطان شكلاً من أشكال المقاومة ضدّ هياكل السلطة القمعيّة الدينيّة. يؤثّر هذا التمثيل لليليث في خطاب الثقافة الإنسانيّة، كرمز لقوّة المرأة ومعارضة التقاليد القمعيّة، على الحركات النسويّة المعاصرة وتحديد هويّتها الذاتيّة.
ليلى في الموسيقا
من الشعر والميثولوجيا، ننتقل لتقصّي الليلى في الموسيقا، لنجدها، مرّة أخرى، تتمثّل مرارًا وتكرارًا في الموسيقا العربيّة والعالميّة عامّةً. في الموسيقا؛ نجد الليلى ترمز في الكثير من الأحيان لتلك الشخصيّة التي يقع في حبّها الفنّان ويحلم بوِصالها.
أوّل ما يتوارد إلى أذهاننا عند سماع الليلى في الموسيقا – هي أغنية وديع الصافي في “الليل يا ليلى”، من كلمات مصطفى محمود، في قوله “الحبّ لا تحلو نَسائِمُه / إلّا إذا غَنّى الهَوى ليلى”، أو في أغنية كاظم الساهر “أنا وليلى” لحسن المرواني، في قوله “جفّت على بابِك الموصودِ أزمنَتي. ليلى. وما أثمرت شيئـًا نداءاتي” (1970). وأغنية “مجنون ليلى” المعتمِدة على ديوان أحمد شوقي، تُعتبر واحدة من أهمّ علامات التحوّل في موسيقا وألحان محمد عبد الوهاب والموسيقا العربيّة بوجهٍ عامّ. حيثُ رسم في نوتتها عام 1940، وما كان سيأتي به من ألحان بعدها، من تجديد وتطوير ميّز الموسيقا العربيّة في الأربعينات من القرن العشرين.
أمّا في الموسيقا البديلة الحديثة، فيبدو أنّ مقولة عبد الستّار فرّاج “أنّ الليلَيات في العرب كثيرات، والعشاق كثيرون”، صحيحة كذلك في هذا السياق. فأوّل وأبرز سياق لليلى في حقل الموسيقا البديلة الحديثة، نجده في اسم فرقة “مشروع ليلى” اللبنانيّة، الذي يتلاعب على محوريّة الليل والليلاء؛ كون غناءهم واحتفالاتهم تجري في الليل. تعدّدت محاولات تفسير اختيار الاسم، كما تعدّدت إجابات أعضاء الفرقة المختلفة عن هويّة ليلى. من أبرز الأسباب التي ذكرت، تقول الفرقة إنّ تشكيلها كان من المفترض أن يكون مشروع ”ليلة“ واحدة بناء على ورشة العمل، لكنّ استمرارهم بالعمل والنشاط سويًّا تطوّر وتعدّى مشروع “الليلة الواحدة”، ممّا دفعهم لإطلاق اسم ”مشروع ليلى“ على نشاطهم، تيمّنًا بتلك ”الليلة“. تضيف ماري بيل حدّاد[25] في قراءتها للتسمية؛ أنّ استخدام الألف المقصورة بدلاً من التاء المربوطة، يُعزَى إلى رغبة الفرقة بتمثيل صوت الشباب اللبنانيّ عبر صوت ”ليلى“، التي تلامس جميع قضايا المجتمع العربيّ. في مقابلة أخرى، عندما سُئِل أفراد الفرقة عن أصل التسمية، ردوّا بشيء من الدعابة أنّ الفرقة بدأت كمشروع لجمع المال لفتاة يعرفونها تُدعى ليلى[26]. في بداية طريق الفرقة، نجد أغنيتهم التي تحمل اسم “رقصة ليلى”، والوحيدة التي تتطرّق إلى “ليلى” بشكل مباشر وصريح، تقدّم عشوائيّة عفويّة ونقدًا لاذعًا على نقديّة المجتمع الهدّامة[27].
نَقْدُ مشروع ليلى المجتمعيّ والثقافيّ، حوّلهم بعد عقد واحد فقط من النشاط إلى فرقة ملاحَقَة بناءً على هويّة أفرادها الجنسيّة، ممّا أدّى لتهديدهم بالقتل ومنع حفلاتهم[28]. في هذا المضمار، نجد كذلك أصواتًا عديدة ادّعت أنّ اختيار الاسم لم يكن بريئًا، بل ربطته كذلك بالليليث. مثلًا، يدّعي كاهن أبرشية بيروت للروم الكاثوليك، الكاتب الأب أنطوان يوحنا لطّوف، في كتابه “بدعة العصر الجديد في مواجهة كنيسة المسيح”[29] بأنّ تسمية “مشروع ليلى” بهذا الاسم بشكل خاصّ ليس بريئًا، بل “يعود إلى لفظة ليل الأقرب إلى ليلى وإلى الشيطانة ليليث، التي يعتقد اليهود بأنّها زوجة آدم الأولى، لكنّها تمرّدت وحوّلها الشيطان إلى عاهرة الشياطين وملكة السحاق ومصّاصي الدماء والشاذّين ورمز التمرّد على الرجل وسلطته، كما تعبدها عدّة جماعات أنثويّة وشاذّة”. ويضيف عبر صفحته على شبكة فيسبوك؛ أنّ الفرقة “تستلهم أغانيها من إبليس”، ويسمّيها “فرقة ليليث”. أصبح حضور ليلى في اسم الفرقة، في هذه الحالة، أداة لملاحقتها، أو لتشريع هذه الملاحقة بمفاهيم الأب لطّوف.
في عام 2022، أعلن مؤسّس “مشروع ليلى” الفنّان حامد سنّو تفكيك الفرقة، التي أرهقتها حملات التحريض والملاحقات المنظّمة ضدّها وضدّ موسيقاها[30]. في السنوات الأخيرة التي سبقت تفكيك الفرقة، تمّ منع العديد من حفلات الفرقة في الأردن ومصر ولبنان.
إلّا أنّ “مشروع ليلى” لم يكن السياق الوحيد في الموسيقا الحديثة لاسم ليلى، حيث نجده في أسماء العديد من الأغاني الحديثة، مثل أغنية محمّد حماقي التي تحمل اسم “ليلى” حيث يقول: “ليلى، بقِت ليلى، اللي أنا مجنونها، كاتب ألف قصيدة في عيونها”. وأغنية كايروكي المميّزة التي افتتحت المادّة فيها – “عشانك أنا قادر أكمل عشانك قادر أتحمل، وكل مرة بشوفك بحبك ثاني”. وأغنية الشاميّ التي تحمل كذلك اسم “ليلى”. كلّ واحدة من هذه الأغاني تعدّت مشاهداتها العشرة مليون على منصّة يوتيوب. هناك أغنية أخرى للفنّان التركيّ رينمِن تدعى “ليلى”، حصلت على أكثر من 240 مليون مشاهدة، وتحكي كذلك عن عشق جنونيّ ومحاولة وِصال معقّدة للمعشوقة، حيث يقول: “إنّني مجنونٌ بك، ولكنّي لا أدري ماذا عنك، لا يمكنني أن أفرض عليك حُبّي. يستحيل.”
وطبعًا، في السياق الموسيقيّ لتناصّات اسم ليلى وتوظيفه، لا بدّ من ذكر أغنية زياد الرحباني “الحالة تعبانة يا ليلى”، التي تحيل بالاسم إلى وِصالٍ نقديّ من نوع آخر؛ وهو الصعوبة التي يحملها الحبّ الطبقيّ بين ليلى “الغنيّة” و”نحنا دراويش.” حيث يقول الرحباني: “الحالة تعبانة يا ليلى خطبة مافيش، وأنت غنيّة يا ليلى ونحنا دراويش. أنت في وادي ونحنا في وادي، كل لحظة تبعّدنا زيادة. أرض العنّا (التي عندنا) بلا سجادة، وأنت معوّدة تمشي عالريش.” أي أنّه، بهذه الكلمات، يعرض الفروقات الطبقيّة في المجتمع اللبنانيّ، و تأثير السياق الاقتصاديّ والفقر على حياة الأفراد، العاطفيّة والمجتمعيّة.
بكلمات أخرى، لم تعد ليلى في الموسيقا البديلة الحديثة مجرّد اسم حقًّا، بل هي رسالة كاملة من العشق بعيد الوِصال. لكنّ هذا التمثيل ليس تمثيلًا رومانسيًّا فقط، بل فيه الكثير من أصوت جيل الثورات العربيّة التي تشكو الغلاء المعيشيّ، وطريق الصراعات الطويلة التي يواجهها الشباب لتحقيق أحلامهم وتكوين عائلاتهم. ليلى، هنا، هي ليست المناضلة فقط، بل هي من يدفع بالنضال – أحمد عيد يقولها مرارا ويكرّرها: “في بداية الطريق والحلم كان لسه بعيد، في عز يأسي وكل الدنيا ماشية عكسي، عشانك أنا قادر أكمل عشانك قادر أتحمل”.
مقابل الموسيقا البديلة، نجد الموسيقا التقليديّة الشعبيّة الشائعة ما زالت تعرض ذات الليلى كتمثيل نمطيّ بدائيّ للمعشوقة، وتكشف لنا أنّ للمعشوقة ليلى قد تكون صورتان – إحداها إيجابيّة وناشطة والثانية سلبيّة وخاملة تنتظر المعشوق. فمثلًا، تغنّي لنا أنغام في أغنيتها ليلى: “أمرتبط بغيري الليلة، أم أنا هذه الليلةَ ليلى”، وبهذه الكلمات تحوّل ليلى من اسم إلى صفة تحمل في طيّاتها المعشوقة المدلّلة. في نهاية المطاف، تضيف أنغام تهديدها: “لا تفتح عليك نيراني والويل”، رابطة بين شرطيّة كونها ليلى، وإلّا “النيران والويل”.
يرى فوكو، أنّ السلطة تنشط من خلال مؤسّسات وممارسات استطراديّة مختلفة، تنظّم وتتحكّم في الأفراد وسلوكيّاتهم. وفي سياق الموسيقا، يمكن اعتبار ذكر ليلى كشخصيّة رمزيّة مرتبطة بالحبّ والرغبة لتوجيه الخطاب النقديّ. يمكن تطبيق فكرة فوكو عن معرفة القوّة هنا، حيث يؤثّر الخطاب المحيط بليلى في الموسيقا على طريقة إدراك الأفراد للحبّ وتجربته، بل على فكرة “الوِصال” والشوق إليه.
إنّ تجربة فرقة “مشروع ليلى”، ومواجهتها للاضطهاد والرقابة بسبب اسمها وهويّتها وموسيقاها، تعكس ممارسات السلطة من خلال الإقصاء. مفهوم فوكو للسلطة التأديبيّة وثيق الصلة هنا، حيث تصبح الهوية الاجتماعيّة والثقافية للفرقة هدفًا للمراقبة والسيطرة.
ليلى في الغرب
وبهذا التهديد، أنتقل إلى صورة ليلى في الغرب، حيث تتناغم بصورة مميّزة كذلك مع الصورة العربيّة والشرقيّة لها، كتلك الفتاة المُعارضة والمناضلة والثائرة، بالرغم من رذاذ الاستشراق الذي يشوّه بعض هذه الصور. أوّل ذكر بارز لاسم ليلى في الثقافة الغربيّة، جاء في أغنية Layla لفرقة البلوز الأمريكيّة Derek and the Dominos (A&M Records, 1970). تحكي الأغنية قصّة ليلى ومجنون، معتمدةً على صياغة الشاعر الفارسيّ العظيم نظامي. في عام 1993، حصلت الأغنية على جائزة جرامي لأفضل أغنية، وفي عام 2004، تمّ تصنيفها في المكان السابع والعشرين في قائمة Rolling Stone لأفضل 500 أغنية في التاريخ. المثير في الأمر أن الأغنية كانت مستوحاة من حبّ إريك كلابتون، المغنّي، السِّري لباتي بويد، زوجة صديقه وزميله الموسيقيّ جورج هاريسون، تمامًا كما كان حبّ مجنون لليلى المتزوّجة من ابن عمّها ورد. لكنّ قصّة كلابتون وباتي بويد لم تكن تراجيديّة كمجنون ليلى، فبعد طلاق هاريسون من باتي بويد، تزوّجا كلابتون منها في النهاية[31].
الموضع الآخر الذي لا بدّ من التطرّق إليه، هو فيلم Layla M. الدنماركيّ من عام 2016، لمخرجته ميج دي يونغ. يحكي الفيلم قصّة ليلى، شابّة هولنديّة مسلمة من أصول مغربيّة، وُلدت ونشأت في أمستردام. تواجه ليلى، بشكل يوميّ، صورًا مختلفة لرُهاب-الإسلام (الإسلاموفوبيا) والعنصريّة. بالرغم من أنّ عائلتها تندمج بسعادة في الثقافة الهولنديّة، تبدأ ليلى بالتمرّد والتوجّه نحو الأصوليّة الإسلاميّة. يبدأ كلّ شيء من متابعاتها لأخبار الشرق الأوسط ومشاهدة الفيديوهات القصيرة عن الحرب في سوريّة وفي غزّة، فتقرّر إخراج فيلم بنفسها، ممّا يثير غضب عائلتها. عند فرض حظر على ارتداء البُرقع في أمستردام، يزداد عزم ليلى على لبسه معترضةً على التعاليم الليبراليّة المفروضة عليها. تلتقي ليلى شابًّا يوصف كراديكاليّ يُدعى عبد، ويقرّران الزواج والسفر إلى الشرق الأوسط معًا. هناك، تعيش ليلى ثنائيّة النفاق والاضطهاد ضدّ النساء وترى وجهًا آخر للإسلام، غير الذي تعرّفت عليه في أوروبا. تكتشف أنّ الإسلام الشرقيّ هو إسلام عماده الأبويّة، وفي أزقّته العديد من الطرق المُختصرة للتطرّف والراديكاليّة[32].
حاز الفيلم على ردود فعل إيجابيّة جدًّا في الغرب، وساعد على زيادة تأثير اسم ليلى كاسم يمثّل المرأة الشرقيّة المتمرّدة والرافضة لدور الضحية المُباشرة. إلى جانب هذا الفيلم، هناك أكثر من 17 فيلمًا أوروبيًّا قصيرًا يحمل اسم ليلى، وفي 10 منها على الأقلّ، هناك نقاش لموضوع الاضطهاد ضدّ النساء والعنصريّة التي تواجهها النساء العربيّات أو الشرقيّات. في هذه الأفلام تظهر ليلى ضحيّة، وتحاول مواجهة مكانتها لتتحدّى المعتدين عليها والمُسيئين لها. فيلم آخر مهمّ بهذا السياق، هو الفيلم الوثائقيّ القصير “نور وليلى” (Noor & Layla) من إخراج المخرجة الكنديّة-باكستانيّة فوزية ميرزا، والصادر عام 2021. يناقش “نور وليلى” قصّة حبّ مثليّة في العالم الإسلاميّ – بين فتاتيْن، هما نور وليلى. الفيلم القصير مقسّم إلى خمسة أقسام، تبعًا للصلوات الخمس، ويتّبع العلاقة العاطفيّة بين الفتاتيْن.
إلى جانب صورتها كمناضلة، نجد في الغرب صورة أخرى لليلى، وهي ليلى الباحثة، وبشكل خاصّ – عالمة الآثار. مثلًا، في سلسلة ألعاب “عقيدة القاتل المأجور” (Assassin’s Creed) الشهيرة، والتي تعتبر واحدة من أنجح ألعاب الفيديو عالميًّا، نجد أنّ الشخصيّة البطلة في آخر 4 ألعاب، منذ عام 2016، هي عمليًّا شخصيّة ليلى. في قصّة اللعبة، ليلى حسن هي باحثة آثار مصريّة تتبع لجماعة عقيدة الأساسنز-الحشّاشين – “عقيدة القاتل المأجور”. وُلدت ليلى القاهرة عام 1984، لأشرف وزينب حسن، وهاجرت من مصر مع والديها وهي طفلة، وعادت إليها فقط في عام 2011، للانضمام لجماعات الثورة في ميدان التحرير. قصّة ليلى حسن في “عقيدة القاتل المأجور”، تعتبر واحدة من أنجح قصص الخلفيّة المعروفة باللعبة، واختيار اسم ليلى جاء بهدف تمثيل بطلة مناهضة للقمع والطغيان، توظّف علمها وقدراتها القتاليّة في نضالها[33].
لكنّ أحدث وأبرز ذكر لليلى في السنوات الأخيرة، هو بلا شكّ، ذكر ليلى الفولي. تمّ عرض شخصيّة ليلى عبد الله الفولي في مسلسل الأبطال الخارقين من عالم مارفل – فارس القمر – Moon Knight، هذه السنة. في نهاية المسلسل، تمّ الكشف أنّ شخصيّة ليلى الفولي التي تلعبها الفنّانة المصرية مي القلماوي، هي عمليًّا أوّل بطلة خارقة عربيّة مصريّة في عالم مارفل السينمائيّ، الذي يعتبر أحد أنجح عوالم السينما. وصفت القلماوي شخصيّتها على أنّها تستمدّ إلهامها من نساء الشرق الأوسط، صاحبات “القوّة الناعمة والمتواضعة للغاية”، عكس الممثّلات الغربيّات، مثل أنجلينا جولي التي صوّرت شخصيّة لارا كروفت كمُداهمة قبور وعالمة آثار شديدة وقاسية، بينما ليلى الفولي هي عالمة آثار مصريّة تحترم الآثار وتحفرها بذكاء كي لا تؤذيها. وبالرغم من رقّتها، فليلى الفولي لا تسكت بتاتًا أمام القمع الذي يواجهه الشارع المصريّ، فتدافع بجسدها وكامل قواها عنه. بل إنّها تتقمّص كذلك صورة الآلهة إيبت (Taweret)[34]، وهي آلهة الحماية والوفرة في الديانة المصريّة القديمة، وفي نصوص الأهرام يلتمس الملك أن يتغذّى من ثديها حتّى لا يظمأ أو يجوع مرّة أخرى للأبد[35].
دور ليلى كباحثة وعالمة آثار في السياق الغربيّ، لا سيّما في لعبة الفيديو “Assassin’s Creed”، وفي مسلسل “فارس القمر” يسلّط الضوء على استعادة الوكالة على إنتاج المعرفة وديناميّات القوّة التي ينطوي عليها تشكيل الروايات والتمثيلات التاريخيّة. تعمل القوّة في إنتاج المعرفة من خلال التحكّم فيما يعتبر صحيحًا وموثوقًا وحقيقيًّا، خاصّة عندما يتمثّل في شخصيّة ذات أصول عربيّة، كما هي “ليلى” في لعبة الفيديو والمسلسل.
تحكي هذه الليلَيات الغربيّة، بمعظمها، قصص نساء تأتي من لُبّ الثقافة العربيّة والشرقيّة، ومن خلال هذه الأمثلة التي قدّمتها هنا، نجد أنّ صورة هذه النساء تتشابه مع صورتها في العالم العربيّ – وهي صورة المرأة المُقاتلة المناضلة، والتي لا تصمت في وجه القمع. ما يثير حفيظة المتلقّي النقديّ، قد يكون في أنّ اختيار اسم واحد يمّيز معظم النساء الشرقيّات الآتية من الشرق، قد يرمز لرؤيا أُحادية إلى الشرقيّة. لكنّ هذا غير دقيق، فهناك أسماء أخرى، مثل عائشة وناديا وأميرة وغيرها.
المثير للاهتمام والتساؤل الكبير في هذا السياق، هو انتشار هذه الأسماء في تسمية المواليد الجدد في الغرب. فانتشار اسم ليلى كان نادرًا جدًّا في الولايات المتّحدة قبل تبدّل الألفيّة. لكنّه، وعلى ما يبدو بتطارد عكسيّ معيّن مع انتشار رهاب الإسلام والشرق نتيجة أحداث سقوط التوأميْن، تمكّن الاسم من الانتشار الكبير في العقديْن الأخيريْن. فمثلًا، في عام 2019، كان في المرتبة الثالثة والعشرين بين الأسماء الأكثر انتشارًا للمولودات الجدد، حيث بلغ عدد المولودات 6500، وهو ما يمثّل 0.355 في المائة من إجماليّ المواليد الإناث في عام 2019. بالنسبة لعام 2021، بلغ عدد المواليد باسم ليلى 6303، وهو ما يمثّل 0.354 في المائة من إجماليّ المواليد الإناث في عام 2021[36].
تساهم تمثيلات ليلى هذه، في الموسيقا والأفلام وألعاب الفيديو والمسلسلات التلفزيونية، في نقد بعض الصور والقوالب النمطيّة المرتبطة بليلى، لا سيّما بوصفها شخصيّة متمرّدة ومقاومة لما آلت بها التمثيلات الاستشراقيّة السابقة للشخصيّة العربيّة الخاملة أو الضعيفة، التي بلور رسم صورتها إدوارد سعيد في “الاستشراق”[37]. لا تخلو هذه التمثيلات من وجهات النظر الاستشراقيّة على التمثيلات الغربيّة لليلى، حيث تشوّه النظرة الاستشراقيّة صورة ليلى وتعرضها كمُغرية، ممّا يعزّز ديناميكيّات القوّة ويعزّز السرد الغربيّ السائد عن الشرق. تعمل القوّة من خلال هذه التمثيلات، من خلال تعزيز الصور النمطيّة والحفاظ على النظرة الغربيّة باعتبارها منظورًا معياريًّا.
إلّا أنّ السياق المعاصر، وبشكل خاصّ، الذي تقدّمت به في هذه المادّة يعرض دورًا مغايرًا لشخصيّة ليلى كشخصيّة مقاومة وناشطة في سياقات مختلفة. سواء كان ذلك تمرّد ليلى على التعاليم الليبراليّة، أو استكشافها لهويّتها الإسلاميّة، أو مشاركتها في الحركات السياسيّة، فإنّ أفعال ليلى تتحدّى وتقاوم هياكل السلطة المهيمنة، مهما كانت شرقيّة أو غربيّة، ليبراليّة أو دينيّة محافظة. تعمل هذه المقاومة على اضطراب وتخريب علاقات القوّة والخطابات القائمة.
تعرض هذه التمثيلات الغربيّة، كذلك تقاطعيّة السلطة، من خلال معالجة قضايا الجنس والجندر والعرق. التمييز الذي تواجهه ليلى المذكورة في السياق الغربيّ، يمثّل التقاطعيّة الكرينشويّة[38] بطريقة واضحة جدًّا، كتمثيل لامرأة مسلمة من أصل عربيّ في مجتمع غربيّ، فضلاً عن تصوير نضال ليلى ضدّ الاضطهاد والعنصريّة من المجتمع الغربيّ ومن مجتمعها الدينيّ. تعمل القوّة على هذه الهويّات المتقاطعة من خلال تشكيل تجارب ليلى وفُرصها داخل المجتمع.
يمكننا مشاهدة هذا النوع من المقاومة التقاطعيّة للسرديّة بصورة واضحة جدًّا في فيلم “دنيا وأميرة حلب”. صدر الفيلم في عام 2023 كفيلم رسوم متحرّكة، من إخراج الفنّانة ماريا ظريف. صدر الفيلم بإنتاج كنديّ-فرنسيّ مشترك، وقامت ظريف، السوريّة، بكتابته وإخراجه بمشاركة رسّام الكاريكاتير الكنديّ الفرنسيّ أندريه قاضي في الإخراج. الفيلم ناطق بالفرنسيّة، ويمزج فيها العربيّة بلهجة سوريّة-حلبيّة في بعض المشاهد المُغنّاة. أميرة حلب في الفيلم هي ليلى، والدة البطلة الصغيرة دنيا، التي تموت في بداية الفيلم لكنّها تتحوّل إلى روح ملائكيّة تخيّم في سماء دنيا طيلة الفيلم. يحكي الفيلم قصّة الهروب من الحرب في سوريّة نحو رحلة لجوء طويلة تقوم بها دنيا مع عائلتها. في هذا الفيلم، تتمكّن ظريف من عرض صورة ليلى العربيّة الشرقيّة بطريقة تتماهى تمامًا مع مفهوم المحبوبة السامية التي يتوق البطل لوصالها، وكونها في هذه الحالة أمًّا وليست معشوقة يضيف المفهوم الصوفيّ العميق لعشقها والتوق إليها. لكنّ ظريف لا تكتفي بهذا، بل تضيف تناصًّا وتماهي بين شخصيّة ليلى، أميرة حلب المعاصرة، مع شخصيّات نسائيّة إلهيّة أخرى مثل عشتار، ومثل مفهوم الليل وظلماته الآمنة في هذا السياق. كون الفيلم صادر عن أستوديوهات كنديّة وفرنسيّة يجعله فيلمًا غربيًّا، ولغته الفرنسيّة تفرض جمهوره الأوليّ، لكنّ إنتاجه من قِبل الفنّانة ذات الهويّة والخلفيّة الثقافيّة السوريّة، يمكّنه من صدع الصورة التقليديّة والنموذجيّة للمرأة العربيّة في الغرب، ولليلى بشكل خاصّ.
ليلى الحمراء
إلى جانب هذا الحضور الزخم في الثقافة العربيّة والغربيّة، بقي هناك تطرّق واحد مركزيّ ليلخّص لنا حضور ليلى الثقافيّ، وهو في ثقافة الأطفال. في هذا السياق، نجد اسم ليلى هو الاسم المتّبع لشخصيّة ذات القبّعة الحمراء المعروفة من الثقافة الشعبيّة العالميّة. “ليلى الحمراء” أو “ليلى والذئب” أصبحت شخصيّة مألوفة جدًّا في عالم الأطفال، بينما ذات الشخصيّة لم تحصل على أيّ اسم عينيّ في الثقافة العالميّة، وكانت تدعى بأسماء عامّة غير محدّدة مثل ذات القبّعة الحمراء، Little Red Riding Hood، Le Petit Chaperon rouge، Rot-käppchen أو حتّى Cappuccetto Rosso – أي القبّعة الحمراء. يغلب اللون الأحمر على التسمية في اللغات الأخرى، بينما في العربيّة والهونغاريّة، نجد الحكاية تكتفي في الكثير من الأحيان باسم شخصيّ، ليدلّ مباشرة على الشخصيّة. في العربيّة، نقول ليلى، كما في “ليلى والذئب”، عوضًا عن ذكر اللون. وفي الهونغاريّة نقول “بيروسكا والذئب” (Piroska és a farkas)، حيث أنّ “بيروسكا” هي كلمة تدلّ على المعنيّين، أوّلًا على اللون الأحمر، وثانيًا فهي تعبّر عن اسم مؤنّث في المجتمع الهونغاريّ.
في بحث تاريخ التسمية العربيّة، نجد على ما يبدو، أنّ أوّل الأدباء الذين استعملوا هذا الاسم هو كامل كيلاني في تعريبه للقصّة الشعبيّة. هناك العديد من التفسيرات الممكنة لاختياره لها الاسم بشكل خاصّ، لكنّ أبرزها هي أنّ ذات القبّعة الحمراء تحمل في سلّتها زجاجة نبيذ لتأخذها لجدّتها، ومن أجل التخلّص من النبيذ ومحو ذكره في قصّة موجّهة للأطفال في مجتمعات ذات طابع وتراث إسلاميّ، اختار كيلاني إخفاء النبيذ من النصّ وذكره بشكل مبطّن في اسم الشخصيّة – ليلى (نشوة الخمر). يمكن تقديم تفسير آخر لهذا الاختيار، وهو تفسير يدلّ على رمزيّة الاسم لسياق القصّة، فالقصّة، عمليًّا، تشمل تحذيرًا للأطفال المستمعين بألّا يجولوا الغابة بل يسيروا في الطريق المعبّد فقط. يشمل الاسم ليلى في اللغة العربيّة مقطعيْن؛ هما لَيْ و-لَى، اللي يدلّ على الالتفاف والسير بالطريق غير المستقيم، واللى يلفظ كما لو كان لا – النافية أو الناهية. أي أنّ اسم ليلى يدلّ على رمزيّة صوتيّة بمعنى “لَيٌّ لَا”.
هذه الإمكانيّات، هي تفسيرات واردة لنجاح الاسم وبلوغه هذه الدرجة، لكنّها لا تعني أنّ كيلاني قصدها فعلًا. السياق الآخر الذي لا بدّ من التطرّق إليه، هو مجازيّة الاسم، بناءً على مجازيّاته ورمزيّاته في مجالات الميديا الأخرى. ذات القبعة الحمراء الصغيرة، هي طفلة ضعيفة وخاملة في معظم الصياغات التقليديّة، إلّا أنّ الأمر يختلف في الصياغات الحديثة عالميًّا للقصّة الشعبيّة. حيث يمكننا أن نجد الكثير من الصياغات التي تحوّل الطفلة الصغيرة إلى شخصيّة قويّة ومحتالة بنفسها، تتمكّن من التحايل على الذئب. في قصّة Ninja Red Riding Hood[39] مثلًا، نتعرّف على صيغة تتدرّب وتتعلّم فيها ذات القبّعة الحمراء مهارات النينجا لتتحدّى الذئب. وقصّة “ليلى والذّئب” لإميلي نصر الله، تقترح قراءة نسويّة جندريّة للنصّ[40]. في معظم الحالات، عند تحوّل اسم الطفلة إلى ليلى، ورواية قصّتها في المجتمعات العربيّة الحديثة، تتمكّن الطفلة من نقد اضطهادها والاعتراض على تصنيفها كضحيّة مباشرة. لا يحدث هذا بسبب اسمها طبعًا، إنّما نتيجة التعديلات المُعاصرة على الأدب الشعبيّ القديم والصوابيّة السياسيّة، لكنّ نتيجته تُظهر أنّ الليليات في القصص الجديدة هي مناضلة.
في الصياغة الفلسطينيّة، مثلًا، للقصّة، نتمكّن من رؤية ليلى كمُقاطعة – “ما بتشتري من بضايع المستوطنات”[41]، وليلى تتحدّى الذئب لتزور جدّتها – “بس أنا صغيرة، ما معاي تصريح”[42]، وحتّى ليلى تتوجّه للمحكمة لرفع دعوى ضدّ الذئب الذي التهم جدّتها[43]. هذه الصياغات كلّها، وغيرها الكثير، تعرض لنا ليلَيات مناضلة، لا تقبل الإهانة والقمع، بل تواجهها.
كما رأينا، يظهر اسم ليلى في التمثيلات الثقافيّة المختلفة في الكثير من الصور. في المسرح والسينما والموسيقا نجد الاسم يرمز للشخصيّة الجريئة المتمرّدة على الأعراف والمناضلة في وجه القمع. إتيمولوجيا الاسم قد تأخذنا مرّة أخرى لليليث، أم الشياطين في تمثيل المرأة القويّة، وقد تأخذنا لليلة السوداء، حالكة الظلام التي يصعب إيجاد الطريق الصحراوية فيها. وكلّ من هذه الإحالات ترمز إلى مواجهة المجهول والتعامل معه بجرأة ودون تردّد. وهكذا، قد يكون تحوّل اسم ليلى لاسم رمزيّ للضحيّة التي تختار النضال عوضًا عن الخضوع.
حضور “ليلى” في سياق الأدب الشعبيّ العربيّ وتوظيفه لتقنيّات إعادة الصياغة الشعبيّة، يُظهر لنا إعادة صياغة الحوار والخطاب حول دور شخصيّات نسائيّة مثل ليلى الحمراء، وتمكّنها من نقد القوالب الجندريّة وكسرها، مبتعدة عن التصوير التقليديّ للشخصيّة الضعيفة والسلبيّة. يشير هذا التحوّل إلى تحوّل في الممارسات الخطابيّة المحيطة بليلى، ممّا سمح لها بأن تصبح شخصيّة مقاومة وناشطة. يعكس هذا فكرة فوكو، بأنّ المقاومة والنفوذ الذي تسعى إليه، تعمل من خلال محاولة التأثير على الممارسات الخطابيّة التي تشكّل وتعيد تعريف الأدوار والهويّات الاجتماعيّة.
للي قالته لِيلا
في نهاية الحديث، بقي التطرّق للمقولة الشعبيّة المتعارفة: “للي قالته لِيلا” أو “للذي قالته ليلى”. انتشرت هذه العبارة الشعبيّة في عام 2020 كثيرًا في الأردنّ؛ بعدما استعملها وزير التربية والتعليم الأردنيّ الأسبق، وليد لمعاني، عبر شبكة تويتر رادًّا على شابّ قال إنّه هاجر من الأردنّ ولن يعود إليها مجدّدًا – نتيجة تطوّرات الحالة الوبائيّة في الأردنّ، إثر وباء كورونا، وتعامل المملكة معها. ردُّ الوزير السابق بهذه العبارة أدّى لامتعاض شديد وأثار الكثير من الجدل.
أمّا عن مصدر العبارة، فيُحكى في قديم الزمان عن انتشار مرض طفيليّ أصاب نساء قرية نائية بمؤخّراتِهِنّ. ولحَياء هؤلاء النساء، عند ذهابهنّ إلى العطّار، لم يتمكنّ من وصف منطقة ألمهم، والعطّار لم يتمكّن من تشخيص المرض أو وصف العلاج. حتّى أصاب هذا المرض طفلة صغيرة اسمها ليلى. ذهبت ليلى إلى العطّار، وعندما سألها لمَ تريد الدواء؛ فقالت له لطي… أقصد – لمؤخّرتي. وهكذا أصبحت ليلى هي أوّل من تُشفى من هذا المرض. وصارت النساء تذهب إلى العطّار واحدة تلو الأخرى، وعندما تُسأل لِمَ تريد الدواء، تقول “للذي قالته ليلى”.
ملخّص
يتردّد صدى اسم “ليلى” بعمق في كلّ من الثقافات العربيّة والعالميّة، متجاوزًا الزمان والمكان، ليصبح رمزًا للقوّة والجمال والنقد الاجتماعيّ. من خلال ظهور الليلَيات في الشعر العربيّ القديم، والموسيقا العربيّة المعاصرة، والشعر الصوفيّ، وحتّى الأساطير اليهوديّة، برزت ليلى كتمثيل متعدّد الأوجه للهويّة والنقد. ومع ذلك، وبغضّ النظر عن أهميّته الثقافيّة، يحمل اسم ليلى أيضًا مسحة سياسيّة دقيقة، وهو بمثابة تذكير مؤثّر بالديناميّات الاجتماعيّة والسياسيّة المعقّدة التي تشكّل عالمنا. في هذه المقالة، نتعمّق في غيض من فيض التمثيلات التي لا تعدّ ولا تحصى لاسم ليلى، ونستكشف أبعادها التاريخيّة والثقافيّة والسياسيّة عبر المجتمعات المختلفة، لنخلص في نهاية الأمر أنّ اسم ليلى يدلّ على تقاطع خطابيّ نقديّ بين صورة المحبوبة بعيدة الوصال وصورة المناضلة الرمزيّة من أجل الحقوق السياسيّة.
تبدأ رحلة ليلى في أبيات شعريّة من الأدب العربيّ القديم، حيث غالبًا ما تُصوَّر على أنّها رمز لجمال وسحر بعيد المنال. لا تأسر هذه الصور الخيال فحسب، بل توفّر أيضًا نافذة على الحقائق الاجتماعيّة والسياسيّة للعصر. يستمرّ صدى اسم ليلى من خلال الموسيقا العربيّة المعاصرة، حيث تجد تعابير جديدة في الألحان التي تحمل رسائل الحبّ والشوق والمقاومة. هذه الأغاني، بمثابة تذكير بالعلاقة الدائمة بين الفنّ والثقافة والمشهد السياسيّ الذي تزدهر فيه.
في المجال الروحيّ، نواجه حضور ليلى في الشعر الصوفيّ، فيه تمثّل ليلى سعي الباحث عن الحبّ والوحدة الإلهيّين، وتجاوز الانقسامات المجتمعيّة واحتضان تجربة إنسانيّة عالميّة من خلال انغماس تمثيل اسم ليلى بالذات الإلهيّة. بالإضافة إلى ذلك، يظهر اسم ليلى أيضًا في الأساطير اليهوديّة، تحت غطاء شخصيّة ليليث؛ حيث تتشابك الثقافات وتوضح الترابط بين التقاليد المتنوّعة.
بينما ينتقل اسم ليلى إلى ما وراء أصوله العربيّة، فإنّه يواجه روايات وتفسيرات جديدة في الغرب. في الأدب والسينما والثقافة الشعبيّة الغربيّة المعاصرة، غالبًا ما يتمّ تصوير ليلى على أنّها شخصيّة قويّة ومستقلّة وذات قوّة، وتتحدّى القوالب النمطيّة وتتحدّى التوقّعات المجتمعيّة. لا تسلّط هذه التمثيلات الضوء على المفاهيم المركّبة للمرأة الشرقيّة في المجتمعات الغربيّة فحسب، بل تسلّط الضوء أيضًا على النضال المستمرّ من أجل المساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعيّة.
يشمل اسم ليلى، الذي يتجاوز حدود الزمن والثقافة والجغرافيا، نسيجًا غنيًّا ذا أهمّيّة تاريخيّة وثقافيّة وسياسيّة. تعكس تمثيلاته المتنوّعة في الشعر العربيّ الكلاسيكيّ والموسيقا العربيّة المعاصرة والشعر الصوفيّ والأساطير اليهوديّة ووسائل الإعلام الغربيّة، الديناميكيّات المعقّدة للمجتمعات التي تحتضنه وتفسّره. حين نكشف عن طبقات معنى ليلى، نواجه حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أنّ السياسة تتغلغل في كلّ جانب من جوانب حياتنا، وتؤثّر على القصص التي نرويها والهويّات التي نصوغها. أصبحت ليلى، اسم الجمال والقوّة، رمزًا للمقاومة والوحدة والنضال المستمرّ من أجل عالم أكثر شمولًا وإنصافًا. يكشف تحليل القوّة والخطاب، بالاعتماد على نظريّة فوكو، عن الأهمّيّة السياسيّة لاسم “ليلى” بما يتجاوز ارتباطاته الثقافيّة والتاريخيّة. باعتباره رمزًا دائمًا للقوّة والجمال والنقد الاجتماعيّ، تتجاوز ليلى الزمان والمكان، ويتردّد صداها بعمق في الثقافات العربيّة والعالميّة فتظهر ليلى كتمثيل متعدّد الأوجه للهويّة والنقد.
إذًا؛ هل يمكن تعريف ليلى معجميًّا؟ بينما من الواضح أنّ هناك ألف ليلى وليلى، هل يمكن لقراءة نقديّة اجتماعيّة وتناصّيّة الإجابة عن سؤال مفتاح المعجميّ – ما هي أو من هي ليلى:
1. ليلى هي اسم مؤنّث نشأ في الأدب العربيّ القديم، وهي تبرز كرمز للجمال والسحر بعيد المنال والوصال، ممّا يعكس الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ للعصر.
2. رمز القوّة والجمال والنقد الاجتماعيّ عبر الثقافات العربيّة والعالميّة، ويجسّد تمثيلات متعدّدة الأوجه للهويّة والنقد.
3. يرمز حضور ليلى في الموسيقا العربيّة المعاصرة إلى رسائل الحبّ والتوق والشوق والمقاومة، ويسلّط الضوء على الترابط بين الفنّ والثقافة والسياسة.
4. في الشعر الصوفيّ، ترمز ليلى إلى سعي الباحث عن الحبّ الإلهيّ والوحدة، وتجاوز الانقسامات المجتمعيّة واحتضان تجربة إنسانيّة عالميّة.
5. تظهر ليلى في الأساطير اليهوديّة بدور ليليث، وهي توضح الترابط بين التقاليد والثقافات المتنوّعة.
6. في السياقات الغربيّة، يتمّ تصوير ليلى بأنها شخصيّة قويّة ومستقلّة ومتمكّنة، في الأدب والسينما والثقافة الشعبيّة، وتتحدّى الصور النمطيّة والتوقّعات المجتمعيّة.
* لؤي وتد، Forum Transregionale Studien – EUME.Almaany (2023)
- Almaany Arabic Dictionary. Retrieved from https://www.almaany.com/ ↑
- ابن منظور، م. (1997). لسان العرب. بيروت: دار صادر للطباعة والنشر. ↑
- Seyed‐Gohrab, A. (2020). Longing for Love: The Romance of Layla and Majnun. A Companion to World Literature, 1-12. ↑
- هلال، م.غ. (1980). ليلى والمجنون في الأدبيْن العربيّ والفارسيّ: دراسات نقد ومقارنة في الحبّ العذري والحبّ الصوفيّ. ↑
- عباس، د. (2015). قصّة مجنون ليلى في الأدبيْن العربيّ والفارسيّ. مكتبة عين الجامعة. ↑
- فرّاج، ع.أ. (1979). ديوان مجنون ليلى. القاهرة: مكتبة مصر. ص 20. ↑
- مواسي، ف. (2017). ليلى في أقوال مشهورة. موقع القرية. ↑
- السيوطي، ج. (1966). شرح شواهد المغني. بيروت: لجنة التراث العربيّ. ↑
- هلال، م.غ. (1980). ليلى والمجنون في الأدبيْن العربيّ والفارسيّ: دراسات نقد ومقارنة في الحبّ العذري والحبّ الصوفيّ. ↑
- Smith, P. (2014). Layla and Majnun: Nizami. Australia: Book Heaven. ↑
- Ḏulfaqāri, H. (1995). Manẓumahā-ye ʿāšeqāna-ye adab-e fārsi. Tehran. ↑
- Asadollayev, S. (1981). ‘Leyli o Majnun’ v Fārsi Yazychnoi Literature, Dushanbe. ↑
- Foucault, M. (1980). Power/knowledge: Selected interviews and other writings, 1972-1977. Vintage. ↑
- Jung, C. G. (1959). The archetypes and the collective unconscious. Routledge. ↑
- العلاوي، أ. (2005). ديوان العارف بالله والدلال عليه الأستاذ الأكبر أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي رضي الله عنه ونفعنا به. مستغانم، الجزائر: المطبعة العلاوية. ↑
- المدني، ب. (2018). معنى ليلى عند الصوفيّة. نفحات الطريق. ↑
- الوكيل، ع. (1970). مصرع التصوّف. مكّة المكرّمة: عباس أحمد الباز. ↑
- الشعراني، ع. (2005). الطبقات الكبرى المسمّى لواقح الأنوار القدسيّة في مناقب العلماء والصوفيّة. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينيّة. ↑
- ظهير، إ. (2005). دراسات في التصوّف. لاهور، باكستان: إدارة ترجمان السنة. ↑
- ظهير، إ. (2005). دراسات في التصوّف. لاهور، باكستان: إدارة ترجمان السنة. ↑
- الوكيل، ع. (1970). مصرع التصوّف. مكّة المكرّمة: عباس أحمد الباز. ↑
- Sira, B. (n.d.). The Alphabet of Ben Sira. (Original work published in the Middle Ages). ↑
- Hurwitz, S. (1999). Lilith-the first eve: Historical and Psychological aspects of the dark feminine. Daimon. ↑
- Osherow, M. (2000). The dawn of a new Lilith: Revisionary mythmaking in women’s science fiction. NWSA journal, 68-83. ↑
- حداد، م. ب. (2018). دخلك بتعرف مشروع ليلى. دخلك بتعرف؟: https://dkhlak.com/ ↑
- زيادة، ع. (2019). مشروع ليلى: حلول رومانسيّة للكآبة. فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة. فسحةhttps://www.arab48.com/ ↑
- Sharma, S. (2016). Resistance to Orthodox Power Structures through Popular Music in the Middle East. Ethnicity. ↑
- Hall, R. (2019). Mashrou’ Leila: Lebanese Band Concert Cancelled to ‘Avoid Bloodshed’ After Attacks from Church Leaders. The Independent, 31. ↑
- طربيه، أ. ي. (2019). بدعة العصر الجديد في مواجهة كنيسة المسيح. لبنان: جيزل فرح طربيه- دار المشرق. ↑
- Salih, M. (2022). Mashrou’ Leila disbanded: Lebanese group announce split. Middle East Eye. https://www.middleeasteye.net/ ↑
- Reid, J. (2006). Layla and Other Assorted Love Songs by Derek and the Dominos. Rodale Books. ↑
- Bartels, E., & Brouwer, L. (2017). Layla M.: A Film about the Radicalisation of a Moroccan-Dutch Girl Women’s Voices from Amsterdam West and the VU University. Women and Resistance, 137. ↑
- Santos, N. (2022). Assassins and the Creed: A look at the Assassin’s Creed series, Ubisoft, and women in the video games industry. Women in Historical and Archaeological Video Games, 9, 25. ↑
- Vandewalle, A. (2022). “All Gods Will Die”. Mythology and Thor: Love and Thunder. AntiQuiPop: Classical and Ancient Egyptian Reception in Pop Culture & Politics. Hypotheses: 11336. ↑
- Redford, D. B. (2002). The ancient gods speak: A guide to Egyptian religion. Oxford University Press. ↑
- The United States Social Security Administration, SSA. Social Security, www.ssa.gov. ↑
- Said, E. (1978). Orientalism: Western concepts of the Orient. New York: Pantheon. ↑
- Crenshaw, K. (1991). Mapping the Margins: Intersectionality, Identity, Politics, and Violence against Women of Color. Stanford Law Review 43(6): 1241-1299. ↑
- Schwartz, C., & Santat, D. (2014). Ninja Red Riding Hood. G.P. Putnam’s Sons Books for Young Readers. ↑
- سروجي-شجراوي، ك. (2014). “ليلى والذئب”: هل هي مجرّد قصّة أطفال؟ دراسة مقارنة. المجمع 8، 101-156. ↑
- خرابيش وكرياتيف. (2012). كان يا مكنش: ليلى والذئب. You Tube. ↑
- إبراهيم، ج. (2008). الجدار. نابلس. ↑
- أبو سرور، ع. (2009). كلّ الحق عالذيب. مخيم عايدة: مسرح القصبة. ↑